في خطوة أثارت جدلاً واسعاً في الأوساط الاقتصادية والسياسية، وافقت الحكومة المصرية مؤخراً على اتفاقية تمنح شركة قطر للطاقة حصة تبلغ 27% من حقوق الاستكشاف في منطقة شمال كليوباترا البحرية قبالة السواحل المصرية، بالشراكة مع شركة شل التي تحتفظ بنسبة 36% كمشغّل رئيسي، إلى جانب شيفرون بنسبة *27%، وثروة للبترول المصرية بنسبة 10% فقط.

هذه الصفقة، التي خضعت لموافقة رسمية من الحكومة، تكشف بوضوح عن التناقض بين التصريحات الرسمية التي تتغنى بقدرة الشركات الوطنية على قيادة قطاع الطاقة، والسياسات الفعلية التي تفتح الباب أمام هيمنة الشركات الأجنبية على أهم موارد مصر الاستراتيجية، في وقت تعاني فيه البلاد من أزمة عملة صعبة خانقة.
 

شراكة تحمل طابع الهيمنة الأجنبية
الصفقة الجديدة بين قطر للطاقة وشل ليست مجرد اتفاق تجاري عادي، بل مؤشر على تحوّل عميق في السياسة المصرية تجاه إدارة ثرواتها الطبيعية. فبينما تروج الحكومة لفكرة “الشراكات الاستراتيجية” مع الشركات العالمية الكبرى، يتضح أن الكفة تميل بالكامل لصالح المستثمر الأجنبي على حساب الشركات الوطنية.

فشركة شل، التي تمتلك الحصة الأكبر بنسبة 36%، تواصل السيطرة على مشاريع الاستكشاف والإنتاج في المياه العميقة، بينما تتحول الشركات المصرية إلى شركاء صغار في مشاريع داخل أراضيهم. ومع دخول قطر للطاقة بحصة ضخمة تبلغ 27%، تصبح السيطرة الأجنبية على هذا الامتياز البحري شبه كاملة، في مقابل حصة رمزية لشركة ثروة للبترول لا تتجاوز 10%.
 

تبريرات حكومية وواقع مغاير
تبرر الحكومة المصرية هذا التوجه بأن الشركات المحلية غير قادرة على تحمل تكاليف الاستكشاف البحري ودفع المستحقات بالعملة الصعبة. إلا أن هذه المبررات تتجاهل واقعاً أكثر عمقاً، يتمثل في غياب الدعم الفعلي للشركات الوطنية العاملة في القطاع.

فعلى سبيل المثال، تمتلك مصر شركة متخصصة في هذا المجال هي الشركة المصرية للحفر البحري، التي تأسست عام 2008، ونجحت في تطوير أجهزة حفر محلية بالتعاون مع الصين واليابان. ومع ذلك، تم تهميشها لصالح الشركات الأجنبية الكبرى، في وقت كان يمكن للحكومة أن تدعمها لقيادة المشروعات الوطنية والاستفادة من مواردها دون الحاجة لتحويل الأرباح إلى الخارج.
 

إضعاف الاقتصاد الوطني وتفاقم الاعتماد على الخارج
من الناحية الاقتصادية، يعمق هذا الاتجاه من اعتماد مصر على رؤوس الأموال الأجنبية ويجعلها رهينة لمصالح الشركات العابرة للقارات. فالعوائد الناتجة عن عمليات الاستكشاف والإنتاج يتم تحويلها إلى الخارج بالعملة الصعبة، في حين تستمر الدولة في استيراد الوقود والغاز بأسعار مرتفعة.

وبينما تعاني الشركات المصرية من شح السيولة، يجري ضخ استثمارات ضخمة لصالح كيانات خارجية تسيطر على القرار الإنتاجي والتسويقي، ما يعني عملياً خروج الثروة الوطنية من دائرة السيطرة المحلية. ويخشى خبراء الطاقة أن يؤدي هذا الوضع إلى تراجع حصة الدولة من الإيرادات الفعلية في المدى المتوسط، مع استمرار الحكومة في منح امتيازات جديدة دون ضمانات كافية لزيادة المحتوى المحلي أو نقل التكنولوجيا.
 

خسارة مزدوجة: تراجع السيادة وهجرة الكفاءات
لا يتوقف تأثير هذه السياسة عند الجانب الاقتصادي، بل يمتد إلى الجانب الوطني والاستراتيجي. فالتفريط في حقوق الاستكشاف لصالح شركات أجنبية يمثل تنازلاً غير مباشر عن السيادة على الموارد الطبيعية، كما يبعث برسالة سلبية إلى الكفاءات الوطنية في مجالات الجيولوجيا والهندسة والطاقة.

ومع تراجع دور الشركات المحلية في قيادة المشاريع الكبرى، يفقد الشباب والمهندسون المصريون فرصهم في اكتساب الخبرة والتدرج في المناصب القيادية داخل القطاع، ما يدفع الكثير منهم إلى الهجرة نحو أسواق خارجية أكثر تقديراً للخبرات المحلية. وهكذا تتحول مصر من دولة منتجة تمتلك قدرات بشرية وتقنية كبيرة إلى سوق مستهلكة للخبرة الأجنبية.
 

غياب الرؤية الاستراتيجية للدولة
الصفقات المتتالية التي تمنح الشركات الأجنبية السيطرة على مفاتيح قطاع الطاقة تعكس غياب رؤية استراتيجية متماسكة لإدارة الموارد الوطنية. فبدلاً من بناء قاعدة وطنية قوية قادرة على المنافسة، تعتمد الدولة على الحلول السريعة عبر توقيع عقود تضمن تدفق استثمارات خارجية مؤقتة، لكنها تضعف الاستقلال الاقتصادي على المدى الطويل.

وتبدو المفارقة صارخة: الحكومة تتحدث عن “تمكين الشركات الوطنية” و“تعزيز الصناعة المحلية”، لكنها في الواقع تمنح الامتيازات الأكبر لشركات أجنبية، وتترك المؤسسات الوطنية تكافح للبقاء دون دعم حقيقي أو تمويل مناسب.

وفي الأخير فصفقة قطر للطاقة ليست حدثاً معزولاً، بل حلقة جديدة في مسلسل تفريط الحكومة المصرية في ثرواتها الطبيعية تحت شعار “جذب الاستثمارات الأجنبية”. ورغم أن الحاجة إلى العملة الصعبة تبرر جزئياً هذا التوجه، فإن النتيجة النهائية هي إضعاف الاقتصاد الوطني وتراجع السيادة على موارد البلاد.