لم يكن الفيضان الذي ضرب قرى المنوفية والصعيد مجرد ظاهرة طبيعية، بل فضيحة سياسية جديدة لحكومةٍ اعتادت أن تتباهى بـ"الجاهزية الكاملة" في مواجهة الأزمات، بينما تُغرقها أول موجة مطر في فوضى من التصريحات المتناقضة والوعود الفارغة.

فبينما يظهر المسؤولون على الشاشات ليؤكدوا أن "الوضع تحت السيطرة"، كانت المياه تحاصر بيوت الفلاحين وتقتلع محاصيلهم، لتغرق معها ما تبقّى من الثقة في كفاءة مؤسسات الدولة.


 

 

بيوت الطين تغرق... والإعلام يحتفل بـ«الخطة الناجحة»
في قرى محافظة المنوفية، من أشمون إلى بركة السبع، لم يبقَ للفلاحين سوى مشاهد الخراب. مياه الفيضان غمرت الحقول، جرفت البذور، وأطاحت بمحاصيل الصيف التي كانت تشكل مصدر رزقهم الوحيد. بعض الأهالي وصفوا المشهد بأنه "يوم القيامة" الصغير، بعدما تحولت الطرق إلى أنهار والمنازل الطينية إلى أطلال.


 

يقول أحد الفلاحين: “كل سنة يقولوا عملنا استعدادات، ونسمع عن خطط الصرف والري، لكن أول شِتوة تغرقنا. الكاميرات تشتغل، والمسؤولون يتصوروا، وإحنا نغرق.”


في المقابل، كانت القنوات الموالية تبث تقارير عن “النجاح الكبير في احتواء الأزمة”، وتستعرض تصريحات وزراء الري والزراعة حول “جاهزية المصارف” و“كفاءة شبكات التصريف”. مشهد يكشف التناقض الفج بين رواية الدولة وصورة الواقع، بين الخرائط الورقية المرسومة في مكاتب الوزراء، والحقول الغارقة التي يراها الناس بأعينهم.
 

من الاستعراض إلى الانهيار: إدارة بالكاميرا
الحكومة التي تتباهى بإنشاء عشرات المشروعات الكبرى تحت مسمى “خطة حماية البلاد من أخطار السيول”، أثبتت أن إدارتها للأزمات تقوم على “الاستعراض الإعلامي لا التخطيط الحقيقي”. فالمليارات التي أُنفقت على تطهير الترع والمصارف، لم تمنع طفحها بعد ساعات من المطر، في حين تحولت السدود الترابية إلى حواجز هشة انهارت مع أول تدفق للمياه.

يقول خبير هندسي سابق في وزارة الري للعربي الجديد: “المنظومة تدار بعقلية علاقات عامة. لا توجد دراسات علمية حقيقية لتصريف المياه، ولا متابعة ميدانية. نحن نواجه حكومة تتعامل مع الفيضان كحدث إعلامي، لا ككارثة تستدعي إدارة أزمة.”
 

الفلاح ضحية الغرق والديون
في قرى الصعيد، المشهد لا يختلف كثيرًا. أراضٍ طينية تحولت إلى برك، محاصيل الأرز والذرة تلفت بالكامل، والمزارعون عاجزون عن سداد قروضهم الزراعية.
يقول فلاح من المنيا: “البنك بيطلب القسط، والحكومة بتقول الأمور تحت السيطرة. تحت السيطرة فين؟ إحنا اتدمرنا.”


هؤلاء البسطاء، الذين تحمّلوا سنوات من الغلاء وتراجع الدعم الزراعي، يواجهون اليوم مصيرًا أكثر قسوة: لا تعويضات معلنة، لا خطط إنقاذ عاجلة، فقط بيانات مطمئنة تنكر وجود أزمة.
 

تواطؤ الصمت وتضليل الصورة
حتى اللحظة، لم تعلن الحكومة أي حصيلة رسمية لحجم الأضرار أو عدد الأسر المتضررة، ولم يصدر بيان واحد من مجلس الوزراء يوضح أسباب فشل التصريف رغم كل الوعود السابقة. بدلاً من ذلك، تستمر البيانات الجاهزة في الحديث عن “معدلات تصريف قياسية” و“خطة وطنية لمواجهة الفيضانات”.

إنه الخطاب نفسه الذي سمعه المصريون في كل أزمة: “نحن مستعدون”. لكن النتيجة دائماً هي ذاتها: انهيار بنية تحتية، غياب للرقابة، وصمت إداري يخلط بين التجميل والتضليل.
 

سياسات الغياب: من الإنكار إلى التبرير
منذ أعوام، يكرر النظام حديثه عن "الاستثمار في البنية التحتية"، لكن الحوادث المتكررة تكشف هشاشة تلك الوعود. فالفيضانات ليست أول اختبار يفشل فيه الجهاز التنفيذي؛ سبقها انهيار طرق حديثة بعد أسابيع من افتتاحها، وغرق شوارع العاصمة كل شتاء رغم “خطة الطوارئ الدائمة”.

يقول خبير اقتصادي: “المشكلة ليست في نقص الموارد، بل في غياب الكفاءة والمساءلة. لا أحد يُحاسب حين تتحول الخطة إلى فشل، ولا أحد يُسائل الوزير حين ينهار مشروع بمليارات.”
 

الفيضان كمرآة للنظام
كارثة الفيضان الأخيرة لم تغرق الحقول فقط، بل كشفت عن عمق الفجوة بين دولة تدار بالتصريحات، وشعب يواجه الكوارث وحده. فالحكومة التي ترفع شعار “المشروعات العملاقة” تعجز عن تصريف مياه المطر، وتلك التي تتحدث عن “تمكين الريف المصري” تترك فلاحه بلا مأوى.

إنها أزمة إدارة قبل أن تكون أزمة مناخ. أزمة نظام يرفض الاعتراف بالخطأ، ويستبدل التخطيط بالإنكار.
وإذا كان الفيضان قد كشف هشاشة البنية التحتية، فإنه كشف قبل ذلك هشاشة الخطاب الرسمي نفسه، الذي يواصل الغرق في بحر من الإنكار بينما البلاد تغرق فعلاً في المياه والطين.