يبدو أن حكومة الانقلاب عازمة على المضي في سياسة بيع الأصول بلا توقف، وكأنها وجدت في التفريط في ممتلكات الشعب الطريق الأسهل لتسكين أوجاع أزمتها الاقتصادية، دون أي اعتبار لقيمة هذه الأصول أو حقوق الأجيال القادمة.
أحدث فصول هذا المسلسل هو العرض الخليجي الضخم لشراء أرض المعارض بمدينة نصر، تلك البقعة الاستراتيجية التي ارتبطت لعقود بالمعارض الكبرى والفعاليات الاقتصادية التي عكست صورة مصر أمام العالم، حيث قدم تحالف من شركات سعودية وإماراتية عرضًا لشراء أرض المعارض بمدينة نصر المملوكة لبنك الاستثمار القومي المصري في صفقة جديدة للاستيلاء على ممتلكات المصريين
بيع تحت مسمى "استثمار"
الحكومة تحاول تسويق الصفقة على أنها "استثمار أجنبي مباشر" سيدعم الاقتصاد المصري.
لكن الحقيقة أن ما يحدث لا يمت للاستثمار الحقيقي بصلة، فالاستثمار يعني بناء مصانع ومشروعات إنتاجية تخلق فرص عمل وتضيف للاقتصاد قيمة مستمرة.
أما بيع أرض المعارض فهو ببساطة تسييل للأصول: الحصول على مبلغ مالي لمرة واحدة، مقابل فقدان أصل استراتيجي كان يمكن أن يدر دخلاً متجدداً لعشرات السنين.
إنها ليست استثمارات، بل عمليات بيع مكشوفة، تُدار خلف الأبواب المغلقة وتُعرض على مستثمرين بعينهم، دون شفافية أو منافسة، وكأنها صفقة خاصة وليست ممتلكات دولة وشعب.
صفقات سابقة تكشف المنهج
صفقة أرض المعارض ليست الأولى ولن تكون الأخيرة. فقد سبقها بيع حصص في عدد من الموانئ والشواطئ المهمة مثل ميناء العين السخنة وميناء الإسكندرية وراس الحكمة وغيرهم لصناديق سيادية خليجية.
كما تنازلت الحكومة عن فنادق تاريخية تابعة لشركة "إيجوث" السياحية، وطرحت للبيع شركات كبرى مثل الشركة الشرقية للدخان.
كل هذه الصفقات جرى تمريرها تحت عنوان "جذب الاستثمارات"، بينما الحقيقة أنها نزيف مستمر للأصول الاستراتيجية، يجرّد الدولة من مواردها ويحوّلها إلى مجرد وسيط بين المستثمر الأجنبي والمواطن الذي يدفع الثمن.
فشل حكومي يُغطّى بالبيع
الحكومة تُصرّ على إخفاء فشلها الاقتصادي المتراكم عبر بيع الأصول. فهي عاجزة عن معالجة العجز في الموازنة، وتفاقم الدين الداخلي والخارجي، وانهيار قيمة الجنيه. وبسبب هذا الفشل، تلجأ إلى أسهل الحلول: بيع ما تبقى من أصول الدولة.
بدلاً من إصلاح السياسات المالية، أو دعم الصناعة والزراعة، أو محاربة الفساد والهدر، اختارت الحكومة الطريق الأسهل والأكثر خطراً: التخلص من أصول الشعب قطعة بعد أخرى.
ضياع للأرض وللسيادة
أرض المعارض ليست مجرد قطعة أرض، بل موقع استراتيجي في قلب القاهرة. بيعها يعني أن مصر تفقد واحدة من أبرز ممتلكاتها العامة في منطقة ذات قيمة اقتصادية هائلة. وفي الوقت الذي تحتفظ فيه الدول بأصولها وتحولها إلى مراكز تنمية، تتنازل مصر عنها في صفقات عاجلة لسد فجوات مالية صنعها سوء الإدارة والديون المتراكمة.
غياب الشفافية
لا توجد أي تفاصيل واضحة للرأي العام حول قيمة الصفقة أو كيف جرى تقييم الأرض. هل سيُباع الموقع فعلاً بقيمته الحقيقية، أم أن هناك تخفيضات وامتيازات سرية كما جرى في صفقات سابقة؟ لماذا لا تُطرح الأرض في مناقصة علنية تضمن أعلى سعر وأفضل عائد؟
الحكومة تُدار بمنطق "الوصاية" على الشعب، تتصرف في ممتلكاته وكأنها ملكية خاصة، بينما المواطن هو آخر من يعلم.
آثار اجتماعية وسياسية
بيع الأصول بهذا الشكل يخلق شعوراً بالظلم لدى الناس. المواطن البسيط يُثقل بالضرائب وارتفاع الأسعار، بينما يرى أن حكومته تبيع ما يملكه الشعب للأجانب.
هذا يعمق الفجوة بين الشعب والدولة، ويزيد من الإحباط وفقدان الثقة.
وبينما تتحدث الحكومة عن "مستقبل مشرق" و"مشروعات قومية"، الحقيقة أن المستقبل يُباع الآن في صفقات عاجلة لا تُراعي سوى توفير الدولار بأي ثمن.
كان يمكن أن تكون قصة نجاح
أرض المعارض في مدينة نصر يمكن أن تتحول إلى مشروع وطني ضخم: مركز دولي للمعارض والمؤتمرات، يجذب آلاف الشركات والزوار، ويوفر دخلاً مستمراً وفرص عمل.
لكن الحكومة اختارت الطريق الأقصر والأفشل: بيع الأصل بدلاً من تشغيله وتنميته.
وختاما العرض الخليجي لشراء أرض المعارض بمدينة نصر ليس سوى جولة جديدة من مسلسل التفريط في ممتلكات مصر.
الحكومة بدلاً من أن تدير أصول الشعب لصالحه، تبيعها تحت مسمى الاستثمار، بينما الحقيقة أنها تصفية شاملة لما تبقى من مقدرات الدولة.
هذه السياسة ليست حلاً، بل كارثة مؤجلة. اليوم تُباع الأرض لسد ديون عاجلة، وغداً ستبقى الديون، لكن من دون أصول ولا موارد. إنها وصفة مؤكدة لفقدان السيادة الاقتصادية، وجعل البلاد رهينة لمستثمرين خارجيين.