يشهد قطاع الغاز في مصر واحدة من أكثر لحظاته تناقضاً: فبينما يروّج رئيس وزراء السيسي مصطفى مدبولي لشعارات "الاكتفاء الذاتي" و"المركز الإقليمي للطاقة"، تتوالى الأخبار عن استيراد شحنات باهظة من الغاز المسال، وصفقات ضخمة مع الاحتلال الإسرائيلي، في وقت يلهث فيه المواطن المصري خلف أسطوانة غاز منزلي بأسعار متصاعدة.
شحنات نادرة للتصدير.. وصورة لتجميل الواقع
خلال سبتمبر الجاري خرجت من محطة إدكو شحنة نادرة من الغاز المسال، بحجم 3.75 مليار قدم مكعب، عبر شركتي "شل" و"بتروناس"، لتُصدَّر إلى أوروبا. ورغم أن الحكومة احتفت بهذه الخطوة باعتبارها دليلاً على نجاحها، إلا أن الحقيقة أن مثل هذه الشحنات لا تغطي فجوة الاستهلاك المحلي، بل تأتي كخطوة "تجميلية" لطمأنة المستثمرين وبقاء محطات الإسالة في حالة تشغيل جزئي.
استثمارات أجنبية ضخمة.. ولكن لحساب من؟
أعلنت شركة "إيني" الإيطالية عن تخصيص 8 مليارات دولار للاستثمار في قطاع الغاز بمصر خلال خمس سنوات، تركز على الاستكشافات الجديدة وتطوير الحقول القائمة. الشركة التي تساهم وحدها بنحو 40% من إنتاج الغاز في مصر، أكدت التزامها بدعم طموح القاهرة لتكون مركزاً إقليمياً للطاقة، مستفيدة من البنية التحتية للإسالة.
كما بدأت "بي بي" البريطانية حفر بئر ثانية في منطقة "الكينج" بتكلفة 150 مليون دولار، ضمن خطة لحفر خمس آبار بالبحر المتوسط، مع توقع إنتاج 400 مليون قدم مكعب يومياً. هذه الاستثمارات تبدو ضخمة على الورق، لكنها عملياً تأتي لتعويض التراجع الحاد في الإنتاج، وليس لإضافة فوائض تُصدَّر للخارج.
إنتاج يرتفع.. لكن الطلب يبتلع كل شيء
تعلن وزارة البترول من حين لآخر عن زيادات في الإنتاج: فقد ارتفع الإنتاج اليومي إلى 4.21 مليار قدم مكعب بزيادة 110 ملايين قدم مكعب عن يونيو الماضي، بعد دخول 29 اكتشافاً جديداً الخدمة، وزيادة الاحتياطي بنحو 1.85 تريليون قدم مكعب. كما أضافت شركتا "شل" و"أباتشي" 160 مليون قدم مكعب جديدة. غير أن هذه الزيادات تبدو متواضعة إذا ما قورنت بالطلب المحلي الذي بلغ 7 مليارات قدم مكعب يومياً، أي بفجوة تتجاوز 2.5 مليار قدم مكعب، تُغطى عبر الاستيراد أو الغاز الإسرائيلي.
إسرائيل الرابح الأكبر من "مركز الطاقة"
في أغسطس الماضي، وُقعت صفقة ضخمة بين مصر وشركاء حقل "ليفياثان" الإسرائيلي بقيمة 35 مليار دولار لتوريد كميات هائلة من الغاز حتى 2040، بما يعادل 130 مليار متر مكعب. هذه الصفقة تكشف بوضوح أن "مركز الطاقة" الذي تتحدث عنه الحكومة لا يقوم على فائض مصري، بل على استيراد الغاز من إسرائيل وإسالته في إدكو ودمياط، ثم إعادة تصديره لأوروبا. وبذلك تتحول مصر إلى مجرد "ممر" للغاز الإسرائيلي، بينما تتحمل الخزانة المصرية مليارات الدولارات في صورة استيراد LNG لتغطية السوق المحلية.
شركات تتهافت.. على البنية التحتية لا على الاكتفاء الذاتي
تتهافت شركات كبرى مثل "شل" و"توتال إنرجيز" و"بي بي" و"شيفرون" و"إيني" على مصر، ليس لأن القاهرة تملك فوائض ضخمة، بل لأن لديها محطات إسالة هي الوحيدة بالمنطقة القادرة على تسييل الغاز وتصديره. هذه الشركات ترى في مصر "مركز خدمات" أكثر منه "مصدراً مستقلاً"، ما يعني أن الفائدة الكبرى تذهب للمستثمرين ولإسرائيل التي تجد منفذاً لتسويق غازها، بينما يبقى المواطن المصري رهينة فاتورة طاقة متزايدة.
أرقام مكشوفة.. وواقع أكثر قسوة
حكومة مدبولي خصصت نحو 8 مليارات دولار لاستيراد 150-160 شحنة LNG لتغطية 2025 وحدها.
استثمارات أجنبية موعودة بنحو 1.6 مليار دولار بين 2026-2027 تستهدف إضافة 510 ملايين قدم مكعب يومياً، وهي أقل بكثير من الفجوة القائمة حالياً.
هدف حكومة مدبولي المعلن هو الوصول إلى 6.6 مليار قدم مكعب يومياً بحلول 2027، لكن هذا الهدف يبقى مشروطاً بتمويل خارجي واستثمارات لا تضمن بالضرورة حلاً لأزمة الاستهلاك المحلي.
وفي النهاية فإن الواقع يقول إن الإنتاج المحلي غير كافٍ، وإن مصر باتت تستورد الغاز الإسرائيلي لتغطي فجوتها وتصدّره باسمها. في الوقت الذي تُثقل فيه الموازنة بعشرات المليارات من الدولارات لشراء الغاز، تُسوّق الحكومة لأحلام "مركز إقليمي" بينما الحقيقة المرة أن مصر تتحول إلى مجرد محطة خدمات لغاز الآخرين.