في مشهد يكشف بوضوح حجم التدهور الذي أصاب الصناعة الوطنية، أعلنت مجموعة كنان القابضة السعودية عزمها ضخ استثمارات تُقدر بنحو 2 مليار جنيه لإقامة مجمع صناعي متكامل للصناعات النحاسية والمعدنية في مصر.

الإعلان، الذي جاء في ظل إغلاق وتخريب مصانع النحاس المصرية العريقة – وعلى رأسها مصنع الإسكندرية – أثار موجة من الغضب والتساؤلات:
هل تخلت الدولة عن صناعتها الوطنية ليحل محلها المستثمر الأجنبي؟ وهل باتت مصر سوقاً مفتوحة لمن يرغب في شراء ما تهدم من الداخل؟
 

من صناعة وطنية إلى استثمارات أجنبية
كانت مصر تمتلك عبر عقود طويلة أحد أكبر مصانع النحاس والمعادن في المنطقة، مصنع النحاس بالإسكندرية، الذي كان يمثل ركيزة أساسية في الصناعات الإستراتيجية، بدءاً من الكابلات والأسلاك وصولاً إلى الصناعات الكهربائية والعسكرية.

لكن سياسات الإهمال والتصفية والتخريب الممنهج أدت إلى إغلاق تلك المصانع أو بيعها خردة بأثمان بخسة، في وقتٍ كانت السوق المحلية والعالمية تشهد طلباً متزايداً على منتجات النحاس.
والنتيجة: فراغ صناعي خطير فتح الباب على مصراعيه أمام الاستثمارات الأجنبية لملء الفراغ.
 

السعودية تدخل على الخط
الإعلان الأخير لمجموعة كنان القابضة السعودية عن إقامة مجمع صناعي ضخم بتكلفة 2 مليار جنيه يأتي ليؤكد أن السوق المصرية لا تزال مغرية، لكن الغريب أن المستفيد ليس العامل المصري أو المصنع الوطني، بل المستثمر الخارجي.

المشروع الجديد سيشمل خطوط إنتاج متكاملة للنحاس والمعادن، مع وعود بخلق فرص عمل محدودة، لكنها لا تعوض أبداً آلاف العمال الذين تم تسريحهم بعد إغلاق مصانع النحاس المصرية.
 

ديون المصريين.. واستثمارات الأجانب
المفارقة المؤلمة أن مصر تغرق في الديون، وتدفع مليارات الدولارات فوائد سنوية، في وقت تُهدم فيه الصناعات الوطنية التي كان يمكن أن توفر للاقتصاد المحلي العملة الصعبة وفرص العمل والإيرادات المستدامة.

اليوم، يُستبدل هذا كله بصفقات استثمارية خارجية تُمنح فيها الأراضي والإعفاءات الضريبية للمستثمرين الأجانب، بينما يُطالب المواطن المصري البسيط بتحمل الأعباء والتقشف ورفع الدعم.
 

تفريط في السيادة الاقتصادية
خبراء اقتصاديون يرون أن دخول الاستثمارات السعودية بهذا الشكل لا يعد نجاحاً للحكومة بقدر ما هو اعتراف بفشلها في الحفاظ على الصناعات الإستراتيجية.
فالصناعة النحاسية ليست قطاعاً هامشياً، بل هي أساس صناعات الكهرباء والإلكترونيات والبنية التحتية.
التخلي عنها يعني الارتهان للمستورد والمستثمر الأجنبي، والتفريط في واحدة من أهم ركائز السيادة الاقتصادية.
 

مصير غامض للصناعة الوطنية
المقلق في المشهد أن الحكومة لا تقدم خطة واضحة لإحياء الصناعات الوطنية، ولا تعلن عن استراتيجية لحماية ما تبقى من مصانع النحاس والمعادن.
كل ما يُطرح هو جذب الاستثمارات الأجنبية وكأنها العصا السحرية لحل الأزمات.

لكن التجارب السابقة أثبتت أن هذه الاستثمارات غالباً ما تركز على التصدير وجني الأرباح السريعة، ولا تُبنى عليها نهضة صناعية حقيقية داخل البلاد.
 

بين التخريب والاستبدال
إقامة مجمع صناعي سعودي ضخم في مصر باستثمارات مليارية قد يبدو خبراً اقتصادياً إيجابياً للوهلة الأولى، لكن وضعه في سياقه يكشف حقيقة مختلفة: تخريب وتصفية المصانع الوطنية، ثم فتح الباب للأجنبي ليملأ الفراغ على حساب السيادة الاقتصادية والمصلحة الوطنية.

إنها سياسة تقوم على الاستبدال لا على البناء، وعلى التفريط لا على التنمية.

والنتيجة أن مصر تتحول شيئاً فشيئاً من دولة منتجة إلى سوق مستهلكة، ومن مالكة لثرواتها إلى رهينة لديونها واستثمارات غيرها.