كشفت وزارة الكهرباء عن رصد مخالفات سرقة للتيار الكهربائي بلغت قيمتها نحو 42 مليار جنيه منذ يوليو 2024 وحتى اليوم، في واحدة من أكبر حصيلة مخالفات من نوعها في تاريخ القطاع.

ورغم أن الحكومة سارعت إلى الإعلان عن إجراءات تصعيدية غير مسبوقة ضد المصانع المتورطة، مثل إدراجها في قوائم سوداء وملاحقتها قضائيًا، إلا أن هذه الأرقام الفلكية تطرح سؤالًا جوهريًا: هل المشكلة في المواطن أو المصنع الذي يسرق الكهرباء، أم في السياسات الحكومية التي جعلت الكهرباء سلعة فاخرة لا يطيقها المواطن ولا حتى قطاع الصناعة؟
 

أزمة أسعار قبل أن تكون أزمة سرقة
الحكومة اعتادت على اتهام المواطنين والمصانع بارتكاب مخالفات وسرقات، لكن الواقع يشير إلى أن الارتفاع الجنوني في أسعار الكهرباء هو المحرك الأول لهذه الأزمة. منذ سنوات، تتبنى الدولة سياسة رفع الدعم التدريجي، حتى تحولت الفواتير إلى عبء ثقيل على ميزانية الأسر المصرية، التي تعاني أصلًا من تضخم مرتفع، وارتفاع أسعار الغذاء، وتراجع الدخول الحقيقية.

فبينما كان الدعم يومًا ما ضمانًا لحق المواطن في الحصول على خدمة أساسية بسعر عادل، أصبح المواطن اليوم يدفع فاتورة كهرباء قد تفوق دخله الشهري، خصوصًا مع الزيادات المتكررة، والرسوم الإضافية، والتوسع في "شرائح الاستهلاك" التي ترفع التكلفة بمجرد تجاوز حد معين.
 

مصانع تحت الحصار
ليست الأسر وحدها من تعاني، بل أيضًا المصانع والورش الصغيرة. الكهرباء هي المحرك الرئيسي لأي نشاط صناعي أو إنتاجي، ومع ارتفاع أسعارها، زادت تكاليف الإنتاج بشكل غير مسبوق. في المقابل، لم تتمكن الحكومة من ضبط السوق أو دعم الصناعات المحلية، ما جعل كثيرًا من المصانع تلجأ إلى ممارسات غير قانونية لتقليل الخسائر، منها سرقة الكهرباء.

ورغم أن هذه الممارسات لا يمكن تبريرها، إلا أن الحكومة تتحمل مسؤولية مباشرة، لأنها فشلت في توفير بيئة إنتاجية عادلة، وفضلت سد عجز موازنتها من جيوب المستهلكين والمصنعين على حد سواء.
 

الفشل الإداري والجباية المقننة
ما يثير الدهشة أن الوزارة لم تركز في خطابها على معالجة الخلل الهيكلي في منظومة الكهرباء، بل على الجباية والملاحقة. إعلانها عن "قائمة سوداء" للمصانع يعكس عقلية عقابية لا إصلاحية. فبدلًا من تشجيع الاستثمار أو دعم الإنتاج، يجري وصم المستثمرين والمصنعين بالعار.

الأدهى أن الوزارة لم تكشف عن حجم الفاقد الكهربائي بسبب الأعطال أو الشبكات المتهالكة أو سوء الإدارة، وهي نسب تلتهم مليارات الجنيهات سنويًا. أي أن تحميل المواطن والمصنع وحدهما مسؤولية الخسائر فيه كثير من التضليل.
 

المواطن ضحية المنظومة
الرقم المعلن، 42 مليار جنيه، يكشف حجم الأزمة الحقيقية: المواطنون لم يعودوا قادرين على تحمل كلفة الحياة اليومية، فاضطر كثيرون لمد أسلاك غير قانونية، أو التلاعب بالعدادات. هذه الممارسات ليست نتاج "فساد أخلاقي" كما تلمّح الحكومة، بل نتيجة مباشرة للفقر واليأس.

فكيف يمكن لأسرة متوسطة الدخل تدفع إيجارًا مرتفعًا، وتواجه أسعار غذاء متصاعدة، ورسومًا مدرسية باهظة، أن تتحمل فاتورة كهرباء تلتهم ربع دخلها؟
 

الغلاء يدفع إلى العصيان
في النهاية، سرقة الكهرباء هي شكل من أشكال العصيان الاقتصادي غير المعلن. عندما تعجز الدولة عن ضمان عدالة الأسعار، وتستمر في تحميل الفقراء ومحدودي الدخل أعباء لا يطيقونها، فإن النتيجة الطبيعية هي أن يبحث هؤلاء عن طرق بديلة للبقاء، حتى لو كانت غير قانونية.

هذا لا يعني أن السرقة مقبولة، لكنها جرس إنذار بأن المنظومة وصلت إلى حافة الانفجار. فبدلًا من ملاحقة آلاف القضايا في المحاكم، كان الأجدر بالحكومة أن تراجع سياستها، وتعيد النظر في أولوياتها، وأن تضع المواطن في قلب المعادلة، لا في خانة "المتهم الدائم".
 

أين العدالة الاجتماعية؟
ما يفاقم الأزمة أن الحكومة تبرر رفع الأسعار دومًا بضرورة "إصلاح المنظومة" و"ترشيد الدعم". لكن الواقع أن هذه السياسات لم تحقق عدالة اجتماعية ولا كفاءة اقتصادية. العجز ما زال قائمًا، والديون تتضخم، والمواطن يزداد فقرًا.
بينما يتم التغاضي عن فساد شركات كبرى، أو استهلاك مبانٍ حكومية ضخمة للطاقة بلا رقابة، تركز وزارة الكهرباء على ملاحقة مواطنين محدودي الدخل أو ورش صغيرة بالكاد تكفي أصحابها للعيش.
 

الحكومة مسؤولة قبل المواطن
سرقة كهرباء بقيمة 42 مليار جنيه ليست مجرد "جريمة شعبية"، بل مرآة لواقع اقتصادي مختل. ارتفاع الأسعار، وغياب الرقابة، وانهيار العدالة الاجتماعية، كلها عوامل دفعت المواطن والمصنع إلى اليأس.
بدلًا من التلويح بالقوائم السوداء والدعاوى القضائية، على الحكومة أن تسأل نفسها: لماذا وصل الناس إلى هذا الحد؟ ولماذا أصبحت الكهرباء، وهي أبسط حقوق المعيشة، سلعة بعيدة المنال؟
الإجابة واضحة: لأن السياسات الحكومية تخلت عن المواطن، وحولت الكهرباء من خدمة عامة إلى مصدر جباية. والنتيجة أن الشعب يرد بطريقته: سرقة التيار، كصرخة احتجاج على ظلم الأسعار.