لم تعد أزمة الإيجار القديم في مصر قضية قانونية أو اجتماعية فحسب، بل تحولت إلى قنابل موقوتة تنفجر من وقت لآخر في شكل مشاجرات دموية تهدد السلم الأهلي.
فقد شهدت الساعات الماضية حادثتين صادمتين تكشفان حجم الغليان الاجتماعي المرتبط بهذه الأزمة، الأولى راح ضحيتها شاب قُتل أثناء مساندته شقيقته ضد مالك العقار، والثانية في كرداسة حيث تحولت مشادة كلامية إلى معركة بالخرطوش أسفرت عن إصابة خمسة أشخاص.
مأساة شاب دفع حياته ثمنًا لدفاعه عن أخته
الحادثة الأولى وقعت عندما توجّه شاب برفقة ابنه إلى منزل شقيقته بعد أن استنجدت به بسبب خلاف متصاعد مع مالك العقار الذي تسكنه في ظل نظام الإيجار القديم.
ووفق شهود عيان، حاول الشاب التدخل لفض النزاع بشكل سلمي، لكن الموقف انقلب بسرعة إلى اعتداء وحشي، حيث أقدم أصحاب العقار على الاعتداء عليه بالأسلحة البيضاء، ما أدى إلى مقتله في الحال.
المأساة لم تتوقف عند هذا الحد، إذ تعرض نجله الذي كان بصحبته لإصابة خطيرة بعد أن طُعن بالسكين خلال محاولته الدفاع عن والده.
انتشر مقطع مصوّر لمحامٍ يتابع القضية عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وثّق تفاصيل الواقعة، مؤكداً أن ما حدث جريمة قتل مكتملة الأركان، وأنها تكشف كيف تحوّلت أزمة الإيجار إلى وسيلة للابتزاز والعنف.
أقارب الضحية وجيرانه أعربوا عن صدمتهم، مؤكدين أن الرجل لم يكن يبحث عن شجار، وإنما جاء لحماية شقيقته التي تعرّضت لضغوط متكررة من مالك العقار لإخلاء الشقة.
معركة كرداسة بالخرطوش
وفي مشهد مشابه، شهدت منطقة كرداسة بمحافظة الجيزة في 13 أغسطس مشاجرة دامية بين طرفين بسبب نزاع قديم مرتبط بالملكية والإيجار.
بدأت القصة بمشادة كلامية بين أفراد من عائلتين، لكن سرعان ما تصاعدت لتتحول إلى معركة بالخرطوش، أصيب خلالها خمسة أشخاص بإصابات متفرقة.
أهالي المنطقة أكدوا أن أصوات الأعيرة النارية دوّت في الشوارع وأثارت ذعر السكان، خاصة الأطفال والنساء.
وتم نقل المصابين إلى المستشفى، بينما تدخلت قوات الأمن لفض الاشتباك والسيطرة على الموقف.
أزمة متفجرة منذ عقود
هذه الحوادث ليست سوى تجسيد للغضب المكتوم المرتبط بقانون الإيجار القديم الذي يعود إلى عقود ماضية.
القانون وُضع في ظروف اجتماعية وسياسية مختلفة، حين كان الهدف حماية المستأجرين محدودي الدخل من جشع الملاك.
لكن بمرور الزمن، أصبح هذا القانون مثار جدل واسع؛ إذ يرى الملاك أنهم محرومون من استثمار عادل لعقاراتهم التي تُؤجر بأبخس الأسعار، بينما يتمسّك المستأجرون بحقهم في البقاء بالشقق باعتبارها "ملاذهم الوحيد".
غياب حلول وسط من الدولة، وتأخر إصدار تشريع متوازن يعالج مصالح الطرفين، فتح الباب أمام تفاقم التوترات وتحويلها إلى صدامات دامية كما ظهر في هذه الحوادث.
آراء القانونيين والحقوقيين
محامون وحقوقيون رأوا أن استمرار الوضع الراهن "كارثة حقيقية"، إذ يضع الملاك والمستأجرين في حالة خصومة دائمة، ويجعل القانون عاجزًا عن حماية الأرواح والممتلكات.
وأكد بعضهم أن الحل يكمن في إصدار قانون جديد عادل يراعي مصالح الطرفين تدريجيًا، مع وضع آليات لحماية المستأجرين محدودي الدخل، ومنح الملاك الحق في استثمار أملاكهم بشكل منصف.
الحقوقي البارز خالد علي، في تعليق عبر صفحته، شدد على أن الدولة تتحمل المسؤولية الكاملة عن هذه الفوضى، لأن ترك القوانين على حالها دون إصلاح فتح الباب أمام الفوضى، مضيفًا أن الدماء التي سالت بسبب هذه القضايا هي "ثمن غياب العدالة الاجتماعية والتشريعية".
أصوات من الشارع
في المقابل، عبّر مواطنون عبر وسائل التواصل الاجتماعي عن استيائهم من الصمت الحكومي، وتساءلوا: كيف تُترك أزمة بهذا الحجم لعقود دون حل جذري؟ البعض اعتبر أن ما جرى في الحوادث الأخيرة يذكّر بمصير أي أزمة يتم تجاهلها، حيث يتحول الاحتقان إلى انفجار دموي.
أحد المعلقين كتب: "الإيجار القديم قنبلة موقوتة، كل يوم بنشوف ضحاياها. بدل ما الحكومة مشغولة بالمشروعات الوهمية، تحل مشاكل الناس اللي بتموت عشان شقة إيجار"، فيما اعتبر آخر أن هذه الحوادث ليست سوى بداية لموجة أعنف إذا لم يتم التدخل.
خويف وترهيب
وكانت نيابة أمن الدولة العليا في مصر، في يوليو، قد أصدرت قراراً بإخلاء سبيل المحامي والناشط الحقوقي أيمن عصام، الممثل القانوني لرابطة الدفاع عن المستأجرين، والذي اعتقل بعدما افتى ببطلان قانون الإجار الجديد أثناء ظهوره على قناة الرحمة وذلك بعد نحو ساعة فقط من تصديق مجلس النواب نهائياً على مشروع قانون تعديل الإيجارات القديمة.
https://youtu.be/0K_i73pv5wk
ويُعد عصام من أبرز المدافعين عن حقوق المستأجرين القدامى، وشارك خلال الفترة الماضية في عدد من الفعاليات القانونية والاجتماعية الخاصة بملف السكن، لاسيما قضية الإيجارات القديمة، التي خضعت لضغوط سياسية واقتصادية دفعت باتجاه تعديلها تشريعياً.
اللافت أن عصام كان قد شارك رسمياً في جلسات الحوار المجتمعي التي عقدتها لجنة الإسكان بمجلس النواب لمناقشة مشروع القانون، حيث أبدى اعتراضه الصريح على بعض مواده، محذراً من "التسرع في تحرير العلاقة الإيجارية دون ضمانات اجتماعية"، وداعياً إلى حلول تدريجية تراعي التوازن بين حقوق الملاك ومصالح المستأجرين، باعتبارهم شريحة ضعيفة اقتصاديًا تستحق الحماية الدستورية.
يرى مراقبون أن ما تعرض له عصام قد يشكّل رسالة ترهيب مبطّنة لكل من يفكر في الاعتراض - حتى لو كان ذلك ضمن أطر قانونية ومشروعة.
وأخيرا فحوادث القتل والإصابات التي شهدتها مصر مؤخرًا بسبب نزاعات الإيجار القديم ليست مجرد خلافات فردية، بل مؤشرات خطيرة على أزمة اجتماعية متفجرة تهدد الاستقرار المجتمعي. استمرار الوضع الراهن يعني أن مزيدًا من الدماء قد تُراق في الشوارع بسبب قوانين عفى عليها الزمن.
ويبقى السؤال: هل يتحرك الشعب لإنهاء هذا الملف بما يحقق التوازن والعدالة عبر الضغط على المسئولين واجبارهم على ذلك، أم أن الشعب سيخوض معركته وحيدا كلا على حده حتى فالحق في السكن أصبح في بلدهم أثمن من حياتهم؟