في خطوة جريئة هزَّت المشهد السياسي والاقتصادي الإقليمي، أعلنت أنقرة، في 29 أغسطس الماضي، عبر وزير خارجيتها هاكان فيدان، تعليقًا شاملًا لجميع العلاقات التجارية والاقتصادية مع إسرائيل، في ردٍّ واضح على حرب الإبادة والتجويع المستمرّة في قطاع غزة. القرار لم يتوقف عند المقاطعة التجارية فقط، بل شمل حظرًا كاملًا على تحليق الطائرات الإسرائيلية في الأجواء التركية، مترافقًا مع اتهام مباشر لتل أبيب بارتكاب جريمة إبادة جماعية، ووصف حملتها العسكرية بأنها واحدة من أظلم الصفحات في تاريخ البشرية.

 

ارتدادات اقتصادية ضخمة

هذا القرار، الذي يعدّ الأكثر حدّة في تاريخ العلاقات المتوترة بين البلدين، يحمل تداعيات اقتصادية عميقة على إسرائيل، بالنظر إلى حجم التبادل التجاري الضخم مع تركيا. ففي عام 2023، بلغ حجم التجارة بين الطرفين نحو 7 مليارات دولار. إلا أنّ أنقرة حولت إعلانها سريعًا إلى واقع ملموس، فأغلقت الموانئ التركية أمام السفن الإسرائيلية، ومنعت السفن التركية من دخول الموانئ الإسرائيلية، وأوقفت تمامًا استخدام الطائرات الإسرائيلية لمجالها الجوي. هذه الإجراءات ستؤدي عمليًا إلى شلّ الحركة التجارية بين الطرفين، في ضربة موجعة لاقتصاد الاحتلال.

 

بعد المقاطعة.. انهيار في الأرقام

ولم يقتصر القرار على الجانب الرمزي، بل انعكس فورًا في الأرقام. ففي الثاني من مايو 2024، أعلنت وزارة التجارة التركية تعليقًا كاملًا لكل أشكال التبادل التجاري، بعد أن فرضت قيودًا جزئية في إبريل. وجاء القرار مشروطًا باستئناف تدفّق المساعدات الإنسانية إلى غزة. ووفق بيانات "مرصد التعقيد الاقتصادي"، تراجعت صادرات إسرائيل إلى تركيا بنسبة 67.8%، من 179 مليون دولار في مايو 2023 إلى 57.6 مليون دولار فقط في مايو2024، فيما انكمشت وارداتها إلى مستوى شبه معدوم بلغ 752 ألف دولار، أي بانخفاض كارثي بنسبة 99.8%. إنها أرقام تصف بوضوح حجم الانهيار التجاري بين البلدين.

 

التزام دولي وضغوط على الموانئ

بالتوازي، التحقت أنقرة بـ52 دولة أخرى في الأمم المتحدة تطالب بوقف شحنات الأسلحة التي تغذّي آلة الحرب الإسرائيلية. وعلى المستوى العملي، بدأت السلطات التركية تشديد الرقابة في الموانئ، مطالبة وكلاء الشحن بخطابات تضمن خلوّ الحمولات من أي صلة بإسرائيل أو بالمواد العسكرية المتجهة إليها. ورغم غياب بيانات رسمية معلنة، إلا أن التعليمات الشفهية المتداولة بين مسؤولي الموانئ والوكلاء عكست جدية القرار التركي وإصراره على التطبيق الميداني.

 

البعد الإقليمي: سورية في قلب المشهد

ولا يمكن تجاهل الرابط بين هذا القرار التركي وبين العدوان الإسرائيلي المتواصل على سورية. ففي 27 أغسطس، نفّذت إسرائيل عمليات إنزال جوي على جبل المانع بريف دمشق، إلى جانب قصف مواقع للجيش السوري في الكسوة، سبقها هجوم مباشر على مقرّ رئاسة الأركان في دمشق منتصف يوليو، وقصف مواقع حكومية في السويداء. هذه الاعتداءات المتكرّرة قدّمت خلفية واضحة لفهم الحزم التركي، الذي لم يعد مقتصرًا على رفض جرائم الاحتلال في غزة، بل شمل أيضًا التصدي لسياسات التوسع والعدوان الإسرائيلي في المنطقة بأسرها.

 

صمت عربي يثير الأسئلة

في المقابل، يضع القرار التركي غير المسبوق الصمت العربي الرسمي في موقف محرج، إذ لم تتجرأ أي دولة عربية على اتخاذ خطوة مماثلة. هذا التباين يطرح أسئلة ملحّة: هل ستكون المقاطعة التركية بداية صحوة عربية أم أنها ستظل صفعة يتيمة في وجه الاحتلال؟ وهل يتكرر السيناريو التركي عربيًا أم يبقى الموقف غارقًا في بيانات الشجب الخجولة والمواقف الدبلوماسية الفارغة؟

 

خطوة تاريخية ورسالة مفتوحة

تركيا لم تكتفِ بالإدانة هذه المرة، بل ترجمت موقفها إلى فعل اقتصادي صارم، رافضة أي مخططات لتهجير الفلسطينيين، ومؤكدة أن صمودهم ومقاومتهم سيغيّران مجرى التاريخ. وفي وقتٍ يزداد فيه الصمت العربي المخزي، تضع أنقرة معيارًا جديدًا للموقف الأخلاقي والسياسي في مواجهة المشروع التوسعي الإسرائيلي. قرارها الأخير ليس مجرد ورقة سياسية، بل صفعة مدوّية للاحتلال، ورسالة مفتوحة إلى العالم بأن مقاومة التطبيع والمقاطعة الاقتصادية لا تزال سلاحًا فعّالًا حين تتوافر الإرادة.