على امتداد كورنيش الإسكندرية، تحت شمس أغسطس اللاهبة، يواصل محمود، عامل النظافة، دفع عربته المعدنية المتهالكة بينما يزيل العرق عن جبينه بيد ويجمع القمامة باليد الأخرى.
محمود يعمل منذ 10 أعوام في "حي وسط" بعقد يومية، يتجدد على الورق كل بضعة أشهر لكنه في الواقع عمل لا ينقطع، يتقاضى مكافأة شهرية هزيلة بلا تأمين صحي أو معاش، ليصبح واحدا من مئات الآلاف ممن تحولوا إلى "عمالة مؤقتة دائمة".
ظاهرة تتوسع بصمت
من المدارس إلى المستشفيات، ومن دواوين المحافظات إلى المؤسسات الصحفية القومية، يعمل آلاف المصريين في انتظار لحظة اعتراف قانوني تنهي سنوات من الغموض.
إحصاءات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء (2022) تشير إلى وجود نحو 4.9 ملايين موظف بالجهاز الإداري، يرتفع العدد إلى 5.1 ملايين إذا أضيف العاملون بالقطاع العام والهيئات الاقتصادية، لكن الأرقام الرسمية لا تفرّق بين موظف دائم وآخر مؤقت، ما يترك حجم الظاهرة بلا قياس دقيق.
تقديرات نقابية غير رسمية تذهب إلى أن أعداد المؤقتين قد تتجاوز 600 ألف موظف، يتركز معظمهم في وزارات التعليم والصحة والإسكان والمحليات، إضافة إلى الصحافة القومية.
شهادات من الداخل
الصحفي محمد رمضان يعمل منذ 11 عاما في صحيفة قومية بعقد مؤقت: "نغطي أخبار الدولة ليل نهار، لكننا في أعين اللوائح مجرد متعاونين يمكن الاستغناء عنا في أي وقت"، مؤكدا أن بعض زملائه يتقاضون رواتب أقل من الحد الأدنى للأجور.
في وزارة الأوقاف، يروي أحمد حسن، عامل بأحد المساجد الكبرى، أنه يعمل منذ 9 سنوات بعقد لا يمنحه سوى راتب أساسي محدود بلا أي حوافز.
أما المعلمة فاطمة عدلي، فتقول إن عقدها الورقي لا يتجاوز 3 أشهر لكنه يُجدد تلقائيا: "راتبي أقل من ألفي جنيه ولا أحصل على أي مكافآت، بينما يتضاعف جهدي وقت الامتحانات".
ثغرات قانونية تشرعن الأزمة
ينص قانون الخدمة المدنية رقم 81 لسنة 2016 على أن شغل الوظائف الدائمة يتم عبر مسابقات رسمية، لكن الوزارات والهيئات تلجأ للعقود المؤقتة بحجة سد العجز أو توفير النفقات.
مسؤول سابق بالجهاز المركزي للتنظيم والإدارة أكد أن هذه العقود تمنح "مرونة إدارية" لكنها "تخلق جيلا كاملا خارج المظلة التأمينية".
ورغم مناقشات برلمانية متكررة منذ 2021، لم تتحول التوصيات إلى إجراءات عملية، باستثناء خطوات محدودة كتثبيت بعض عمال الشركة المصرية لتجارة الجملة في مايو 2025.
الحكومة والنقابات: صراع ووعود مؤجلة
النائبة صفاء جابر عيادة تقدمت بطلب إحاطة لرئيس الوزراء ووزير المالية لتصحيح أوضاع المؤقتين، مشيرة إلى وعود لم تُنفذ.
الأمين العام الأسبق لاتحاد عمال مصر عبد المنعم عبد العزيز وصف الظاهرة بأنها "جريمة في حق مئات الآلاف من الأسر".
الخبير القانوني أحمد عبد العليم أكد أن وقف التعيينات الحكومية فاقم الأزمة، مشيرا إلى غياب نصوص تحدد سقفا زمنيا للعقد المؤقت.
بينما شدد مجدي البدوي، نائب رئيس اتحاد العمال، على أن الأزمة تحولت إلى "أمر متجدد" بعد قرارات حكومية بحظر التعيينات والترقيات، مؤكدا بدء لجان مشتركة لحصر المستحقين للتثبيت.
انعكاسات اقتصادية واجتماعية
الباحث الاقتصادي حسام الدسوقي يرى أن التوفير قصير المدى من العقود المؤقتة يقابله "ثمن باهظ" مستقبلا بسبب ضعف الإنتاجية وغياب الولاء الوظيفي.
وبين دفاتر الموازنة التي ترصد 575 مليار جنيه للأجور و21.5 مليار للمكافآت، يبقى الموظف المؤقت في منطقة رمادية بلا حقوق مستقرة.
أزمة صامتة تتسع
العمالة المؤقتة لم تعد مجرد عقود فردية، بل تحولت إلى أزمة صامتة تهدد قطاعات حيوية مثل التعليم والصحة والإدارة المحلية. ومع غياب حل شامل يوازن بين الإصلاح الإداري والعدالة الاجتماعية، يعيش جيل كامل من الموظفين على أمل التثبيت، بينما تستمر الدولة في إدارة ملف ضخم بلا خريطة واضحة للحل.