لم يكن تصريح الدكتور محمود محيي الدين، المبعوث الخاص للأمم المتحدة لتمويل التنمية، مجرد ملاحظة عابرة حين أكد أن الاقتصاد المصري خلال السنوات العشر الماضية وتحديد منذ استيلاء قائد الانقلاب عبدالفتاح السيسي عل السلطة، كان يدور في إطار "اقتصاد إدارة أزمات". هذا الاعتراف يعكس حقيقة مرة ظل المواطن المصري يشعر بها يومًا بعد يوم، بينما تستمر الحكومة والنظام الحالي في السياسات ذاتها التي عمقت الأزمات بدلًا من معالجتها، وجعلت الاقتصاد المصري على حافة الانهيار.
اقتصاد متوقف منذ 2015
وفقًا لتصريحات محيي الدين، فإن الاقتصاد المصري لم يشهد أي تحرك حقيقي في مؤشرات الناتج المحلي الثابت منذ عام 2015. وهذا يعني أن كل الوعود الرنانة والمشروعات العملاقة التي أُنفقت عليها المليارات لم تترجم إلى تحسن حقيقي في الإنتاج أو معدلات النمو المستدام، بل تحولت إلى مجرد شعارات إعلامية لإلهاء المواطن، بينما الواقع يقول إن مصر لا تزال عالقة في مكانها.
الخطير في الأمر أن مصر، رغم امتلاكها إمكانات بشرية وطبيعية ضخمة، لا تساهم سوى بنسبة 0.3% من الاقتصاد العالمي، بينما يشكل سكانها 1.3% من التعداد العالمي. هذه الفجوة الصارخة تفضح فشل السياسات الاقتصادية التي اعتمدت على القروض والمساعدات بدلًا من تبني نموذج تنموي حقيقي قائم على الصناعة والتصدير وتحفيز الابتكار.
صندوق النقد الدولي.. المسار المكرر
محمود محيي الدين أشار بوضوح إلى أن الوقت قد حان لمصر لاتخاذ مسار اقتصادي مختلف عن صندوق النقد الدولي. لكن الحكومة الحالية برئاسة مصطفى مدبولي، وتحت إشراف مباشر من الرئيس عبد الفتاح السيسي، لا تزال تلهث وراء الوصفات الجاهزة التي يقدمها الصندوق، رغم أنها أثبتت فشلها في تحقيق التنمية الحقيقية.
سياسات رفع الدعم، وزيادة الضرائب، وتحرير سعر الصرف أدت إلى تآكل القوة الشرائية للمواطن وارتفاع معدلات الفقر، بينما لم تحقق الاستثمارات الأجنبية الموعودة إلا جزءًا ضئيلاً مما تم الترويج له. النتيجة النهائية هي تضخم قياسي تجاوز كل التوقعات، وجنيه فقد أكثر من نصف قيمته خلال سنوات قليلة، واقتصاد مرهون لشروط الدائنين.
السيسي والحكومة.. فشل إداري وسوء أولويات
لا يمكن إنكار مسؤولية الحكومة والسيسي عن هذا الوضع الكارثي. فمنذ 2014، اختارت الدولة المشروعات الاستعراضية كأولوية، مثل العاصمة الإدارية الجديدة، في وقت كان يجب فيه توجيه الموارد لدعم الصناعة والزراعة والتعليم والصحة. النتيجة كانت نزيفًا من القروض الخارجية وصل إلى مستويات غير مسبوقة، حيث تجاوز الدين الخارجي 165 مليار دولار، ما يضع أجيال المستقبل تحت عبء لا يمكن تحمله.
إدارة الأزمات تحولت إلى أسلوب حكم دائم، حيث يتم الانتقال من أزمة إلى أخرى دون رؤية استراتيجية حقيقية، بل عبر مسكنات مؤقتة مثل طروحات الشركات الحكومية وبيع الأصول للأجانب لتوفير سيولة عاجلة. لكن هذه السياسة ليست سوى بيع لمستقبل البلاد مقابل البقاء في السلطة.
تجاوز أزمة السوق السوداء.. إنجاز زائف
تصريحات محيي الدين حول تجاوز أزمة السوق السوداء لا تعني شيئًا أمام الأزمات الأخرى التي تغرق فيها البلاد. فالسوق السوداء ليست سوى عرض من أعراض المرض، أما المرض الحقيقي فهو اقتصاد هش يعتمد على الاستيراد ولا يملك قاعدة إنتاجية قوية. ومع استمرار الاعتماد على الديون، فإن أي صدمة عالمية جديدة كارتفاع أسعار الطاقة أو تراجع الاستثمارات الخليجية ستعيد البلاد إلى نقطة الصفر.
الخلاصة: الوقت ينفد
بعد أكثر من 10 سنوات من فشل السيسي، لم يتحقق الوعد بالتنمية والاستقرار، بل تحولت مصر إلى اقتصاد يدار بالأزمات ويعيش على القروض. المطلوب الآن ليس مجرد برنامج اقتصادي جديد، بل تغيير جذري في فلسفة الإدارة، قائم على الإنتاج لا على الاقتراض، وعلى الاستثمار في الإنسان لا في الأبراج والقصور. وإلا، فإن السنوات المقبلة قد تشهد انهيارًا حقيقيًا لا تنفع معه مسكنات ولا شعارات.