تحوّل حلم الزواج الذي ظل لعقود رمزًا لتكوين أسرة والاستقرار، إلى كابوس اقتصادي واجتماعي يطارد الشباب والفتيات على حد سواء. فبين الشقق المؤجلة والأثاث، وحفلات الزفاف التي تنتظر التمويل، ودفاتر "الجمعيات" التي ترهق الجيوب، بات الزواج عبئًا يتجاوز قدرات ملايين المصريين، في ظل أزمة اقتصادية خانقة وتضخم غير مسبوق جعل تكاليف الزواج أقرب إلى المستحيل، إلا على القادرين فقط.
أرقام صادمة: عزوف متزايد وزواج عرفي
تشير بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء إلى أن أكثر من 25 مليون شاب وفتاة تجاوزوا سن الزواج من دون ارتباط، بينهم 13 مليون فوق الثلاثين عامًا، أكثر من 10 ملايين منهن نساء.
كما جرى تسجيل 112 ألف حالة زواج عرفي كحل بديل للهروب من تعقيدات التكاليف الباهظة، في انعكاس مباشر لأزمة اجتماعية متفاقمة.
قصص من قلب المعاناة
منة محمد: عاشت صراعًا مع والدتها التي أصرت على شراء أجهزة كهربائية باهظة خوفًا من "كلام الناس"، فدخلت الأسرة دوامة الديون، رغم محاولة أسرة الزوج التيسير.
نوران حسن: مهندسة تعمل مدرسة، تقول إن خطوبتها تحولت إلى "ماراثون استنزاف مالي"، اضطر والدها فيه إلى بيع سيارته وكسر وديعته البنكية، وتضيف: "الناس يعتبرون التيسير فقرًا لا حكمة، والمبادرات للتبسيط لا نسمع عنها إلا في الإعلام".
تامر عادل: مصمم مواقع، واجه صعوبة في شراء الشقة والأقساط الثقيلة، فاكتفى بالأساسيات، وأجّل إصلاح سيارته، واتفق مع خطيبته على حفل بسيط، لكن "المجتمع يرفض فكرة التيسير"، كما يقول.
خالد محمد من المنيا: خطوبة امتدت لثلاث سنوات دون زواج بسبب عجزه عن الحصول على شقة، وتأجيل متكرر لحفل الزفاف بعد موجات الغلاء المتلاحقة.
مبادرات دينية وشعبية لمواجهة الأزمة
في محاولة للتخفيف، أطلق الأزهر الشريف عام 2022 مبادرة "لتسكنوا إليها"، داعيًا الأسر للتخلي عن التفاخر والإسراف في تجهيزات الزواج. المبادرة ركزت على إلغاء ما لا ضرورة له: حفلات التصوير، شهر العسل المكلف، والهدايا الفاخرة.
كما شهدت قرى في الأقصر والمنيا مبادرات شعبية لتقليل النفقات، في حين طرحت وزارة التضامن بالتعاون مع وزارة التعليم العالي مبادرة "مودة" لتثقيف الشباب الجامعي المقبل على الزواج، اعتبرتها الباحثة أسماء إحسان نموذجًا ناجحًا للتوعية.
خبراء: الزواج يتحول إلى "استعراض اجتماعي"
يرى أستاذ علم النفس التربوي عاصم حجازي أن ارتفاع التكاليف ليس مجرد أرقام، بل تحول ثقافي عميق، إذ صار تجهيز العروس وسيلة لإثبات المكانة الاجتماعية لا لتلبية الاحتياجات.
ويؤكد أن الضغوط المادية قد تفشل الزيجات حتى قبل إتمامها، داعيًا إلى دور متكامل من الإعلام، والتعليم، والمؤسسات الدينية لمحاربة "ثقافة المظاهر" والعودة إلى قيم المودة والرحمة.
بين الأمل واليأس
رغم الجهود المبذولة، يظل الزواج في مصر أشبه بسباق طويل المدى يرهق الأسر والشباب، وبينما ينجح البعض في اجتياز "الماراثون" بالتقشف والدَّين، يظل ملايين آخرون عالقين بين انتظار طويل، أو لجوء لزواج عرفي، أو عزوف كامل عن الارتباط.