لم يعد الحصول على العلاج المجاني في مصر أمرًا ممكنًا، حتى في المستشفيات الحكومية التي كانت ملاذًا للفقراء لعقود طويلة. فاليوم، تحولت الخدمة الصحية إلى سلعة مدفوعة الأجر، مع زيادات متكررة في الأسعار، وسط غياب منظومة تأمين صحي شاملة تحمي غير القادرين.

خلال السنوات الأخيرة، أقرت وزارة الصحة المصرية لوائح جديدة رفعت تكلفة الخدمات الطبية بشكل كبير. ففي مارس من العام الماضي، صدر القرار رقم 75 لسنة 2024، الذي وضع تسعيرة محددة لكل خدمة، بدءًا من تذاكر الكشف وحتى العمليات الجراحية. ووفقًا للائحة، تراوحت أسعار تذاكر العيادات الخارجية بين 10 و50 جنيهًا في المستشفيات العامة، بعد أن كانت لا تتجاوز جنيهًا واحدًا فقط. كما حددت الوزارة أسعار الكشف في العيادات المتخصصة ما بين 15 جنيهًا للممارس العام و45 جنيهًا للاستشاري.

وفي أغسطس الجاري، أصدرت الوزارة اللائحة رقم 220 لسنة 2025 الخاصة بتسعير الإقامة في مستشفيات الصحة النفسية، حيث بلغت تكلفة اليوم الواحد 150 جنيهًا للدرجة الثالثة، و180 للدرجة الثانية، و300 للأولى، وصولًا إلى 550 جنيهًا للإقامة في الجناح الخاص.

 

شكاوى من المرضى.. واعتراف رسمي بالأزمة

الدكتورة إيرين سعيد عبدالمعز، عضو لجنة الصحة بمجلس النواب، اعترفت بتقلص مساحة العلاج المجاني، مرجعة ذلك إلى تزايد عدد السكان وارتفاع تكلفة استيراد المستلزمات الطبية نتيجة تغير سعر الصرف، إضافة إلى ضعف موازنة الصحة. وأشارت في تصريحاتها إلى أن وزارة الصحة باتت تضع الفئات الأكثر احتياجًا فقط ضمن الأولويات، ما أدى إلى سقوط شرائح واسعة من مظلة الدعم.

وأكدت النائبة أن هذه التحولات لا تظهر فقط في القرارات الرسمية، بل في الواقع العملي، من خلال نقص المستلزمات الطبية، صعوبة الحصول على قرارات العلاج على نفقة الدولة، وارتفاع أسعار الأدوية خاصة لأصحاب الأمراض المزمنة. وأضافت: «الكثير من المرضى يضطرون إلى شراء الأدوية من الخارج بأسعار لا يقدرون عليها».

 

من المجانية إلى السوق الحرة

من جانبه، يرى الدكتور خالد أمين، الأمين العام المساعد لنقابة الأطباء، أن مساحة العلاج المجاني انتهت عمليًا منذ صدور اللائحة 75، لافتًا إلى أن الوزارة لم تعد تمنح تمويلًا للمستشفيات الحكومية التي أصبحت مطالبة بتغطية نفقاتها ذاتيًا، ما دفعها إلى رفع الأسعار.

وأضاف أمين أن الخدمة الصحية تحولت إلى «سلعة في مقابل أجر»، معتبرًا أن هذا أمر متعارف عليه عالميًا، لكن في ظل غياب نظام التأمين الصحي الشامل، فإن المواطن غير القادر يدفع الثمن. وأوضح أن الوزارة لم تكتفِ برفع الأسعار، بل قلصت الخدمات بعد إقرار قانون الشراكة مع القطاع الخاص، ما فتح الباب أمام استغلال المرضى.

 

الإنفاق من الجيب.. الأسوأ عالميًا

الخبير الصحي علاء غنام، مدير برنامج «الحق في الصحة» بالمبادرة المصرية للحقوق الشخصية، يرى أن الحديث عن «علاج مجاني» غير واقعي، لكن يجب أن تكون هناك جهة ثالثة تتحمل التكلفة نيابة عن المواطن، سواء من خلال نظام التأمين الصحي أو خزينة الدولة.

وأشار غنام إلى أن المنظومة الحالية تعتمد على ما يسمى بـ«الإنفاق المباشر من الجيب»، وهو أسوأ وسيلة لتمويل الصحة في العالم، حيث يدفع المواطن المصري من دخله الخاص نحو 70% من تكلفة العلاج. وانتقد غنام تراجع معدلات الإنفاق الحكومي على الصحة، مؤكدًا أن ما يُنفق لا يرقى إلى النسبة التي حددها الدستور والمقدرة بـ3% من الناتج القومي الإجمالي، والمتوافقة مع المعايير العالمية.

 

أزمة متفاقمة وحلول غائبة

في ظل ارتفاع الأسعار وتراجع الدعم، يجد المواطن البسيط نفسه أمام خيارين أحلاهما مرّ: إما تحمل تكاليف باهظة للحصول على العلاج، أو الاستسلام للأمراض دون علاج. وفي غياب تطبيق فعلي لنظام التأمين الصحي الشامل، يظل الحديث عن إصلاح المنظومة الصحية مجرد وعود، بينما يزداد العبء يومًا بعد يوم على ملايين المصريين.