في مشهد اعتبره كثيرون استفزازيًا، ظهر رئيس الوزراء الإثيوبي أبي أحمد في حوار تلفزيوني أُجري أمام سد النهضة العملاق، يجلس مطمئنًا أمام بحيرة ضخمة خلف السد، يحتسي القهوة ويتحدث عن نجاح مشروعه المائي الذي بات أمرًا واقعًا، فيما يتابع المصريون المشهد بمرارة، في ظل إعلان حكومة مدبولي عن قرارات لتقليص نصيب الفرد من المياه العذبة، بحجة ترشيد الاستهلاك ومواجهة التحديات المائية.
الصورة التي انتشرت على نطاق واسع حملت رسائل سياسية واضحة، أبرزها إصرار إثيوبيا على استكمال خططها المائية دون الالتفات إلى اعتراضات القاهرة، وهو ما يعكس تراجع النفوذ المصري في ملف يعد من أخطر الملفات الاستراتيجية للأمن القومي.
المشهد الاستفزازي.. وأثره على الشارع المصري
مواطنون مصريون علقوا بغضب على المشهد، معتبرين أن الحكومة المصرية فشلت في إدارة الأزمة منذ بدايتها. يقول أحدهم: "إحنا بنشوفه بيشرب القهوة قدام الماية اللي كانت بتجري في النيل عندنا، وحكومتنا بتقول لنا وفّروا.. فين المعاملة بالمثل؟"
الغضب الشعبي تزايد بعدما أعلنت الحكومة عن إجراءات لخفض نصيب الفرد من المياه العذبة، مع التوسع في مشروعات إعادة استخدام مياه الصرف المعالجة، وهو ما يراه خبراء اعترافًا غير مباشر بتأثير السد على حصة مصر التاريخية التي تبلغ 55.5 مليار متر مكعب.
تداعيات سياسية خطيرة
الخبير السوداني في شؤون المياه الدكتور سلمان محمد أحمد سلمان يرى أن موقف مصر أصبح أضعف بعد اكتمال مراحل الملء وتشغيل التوربينات، قائلاً: "القاهرة أهدرت سنوات من المفاوضات دون تحقيق أي التزام قانوني ملزم على إثيوبيا، والنتيجة أن السد أصبح واقعًا لا يمكن تغييره، مع استمرار أديس أبابا في فرض شروطها."
أما الخبير الأممي في إدارة الموارد المائية الدكتور كلاس ليفير، فيحذر من أن الصراع على المياه في حوض النيل قد يتفاقم في ظل غياب اتفاق ملزم لتقاسم المياه، مشيرًا إلى أن مصر ستواجه تحديات هائلة في تلبية احتياجات سكانها الذين تجاوزوا 110 ملايين نسمة، خاصة مع انخفاض نصيب الفرد من المياه إلى أقل من 500 متر مكعب سنويًا، وهو ما يضعها في خانة الفقر المائي المدقع.
حكومة مدبولي في مرمى الانتقادات
قرارات حكومة مدبولي الأخيرة بتقليص الاستهلاك لم تلقَ قبولًا شعبيًا، حيث يرى مراقبون أنها إجراءات شكلية لا تعالج أصل المشكلة، وهو فشل الإدارة السياسية في التعامل مع الأزمة مبكرًا.
يقول الخبير الاستراتيجي اللواء سامح الطحاوي: "أثيوبيا لم تلتزم بأي تعهدات، والمفاوضات التي استمرت عشر سنوات لم تحقق سوى شراء الوقت لصالح أديس أبابا، بينما القاهرة راهنت على المسار الدبلوماسي فقط دون ضغط حقيقي."
ويرى الطحاوي أن غياب أدوات الردع أو أوراق القوة جعل الموقف المصري هشًا، مما دفع الحكومة في النهاية إلى البحث عن حلول داخلية، مثل المحطات الثلاثية لمعالجة الصرف، وتحلية مياه البحر، لكنها حلول مكلفة جدًا ولا تعوض الفاقد بشكل كامل.
أين المعاملة بالمثل؟
أصوات في الشارع المصري تطالب الحكومة بالرد بالمثل، سواء من خلال تدويل القضية في المحافل الدولية أو استخدام أدوات ضغط اقتصادية وتجارية على إثيوبيا، لكن حتى الآن، يبدو أن القاهرة متمسكة بالمسار التفاوضي رغم تعثره المستمر.
في المقابل، تواصل إثيوبيا إرسال رسائل تحدٍّ، كان آخرها حديث أبي أحمد أمام السد، حيث قال: "سد النهضة هو رمز لسيادتنا وحقنا في التنمية، ولن نتوقف عن الاستفادة من مواردنا الطبيعية."
سيناريوهات المستقبل
خبراء يرون أن الخيارات أمام مصر باتت محدودة، إما التأقلم مع الوضع الجديد عبر تسريع مشروعات تحلية المياه وتغيير أنماط الزراعة والاستهلاك، أو التحرك سياسيًا واقتصاديًا بقوة أكبر لإجبار إثيوبيا على اتفاق قانوني شامل.
لكن الوقت يضيق، ومع كل مرحلة تشغيل جديدة للسد، تزداد المخاطر على الزراعة المصرية والأمن الغذائي، وهو ما قد يفتح الباب لأزمات اجتماعية واقتصادية أعمق في السنوات المقبلة.
ويبقى السؤال الذي يتردد على ألسنة ملايين المصريين: "هل سنكتفي بالمشاهدة بينما مياه النيل تُختزن خلف السد، أم أننا نحتاج لتحرك شعبي ضد رعونة السيسي قبل فوات الأوان؟"