"ألستوم" شركة فرنسية عملاقة متخصّصة في حلول النقل بالسكك الحديدية: قطارات عالية السرعة، مترو، ترام، إشارات، وصيانة على نطاق عالمي.
شركة ألستوم هي شركة فرنسية متعددة الجنسيات متخصصة في تصنيع أنظمة النقل بالسكك الحديدية، بما في ذلك القطارات عالية السرعة، وأنظمة المترو، والإشارات، والمركبات الحضرية.
تأسست عام 1928، وتعمل في أكثر من 63 دولة، ويعمل بها أكثر من 86,000 موظف من 184 جنسية.
في سنتها المالية المنتهية في 31 مارس 2025، سجّلت طلبيات بقيمة 19.8 مليار يورو ومبيعات 18.5 مليار يورو، مع دفتر طلبيات ضخم بلغ 95 مليار يورو يمنحها رؤية بيعية لسنوات مقبلة، مما يعكس حجم استثمارات ضخمة وانتشار واسع في قطاع النقل العالمي.
هذه الأرقام تشرح لماذا تبقى شريكًا جذابًا للحكومات التي تبحث عن توسعة سريعة للبنية التحتية، رغم الجدل الحقوقي الذي يطاردها.
لماذا تستبعدها إسبانيا بسبب الاستيطان؟
في برشلونة، تضمّن أحد مناقصات هيئة النقل الحضري (TMB) بندًا يستبعد "ألستوم" من التنافس على توريد 39 قطار مترو حتى 2029 لأنها مُدرجة في قاعدة بيانات الأمم المتحدة للشركات المتورطة اقتصاديًا في المستوطنات الإسرائيلية.
الشركة طعنت على الشرط، لكنّ مجلس مدينة برشلونة كان قد تبنّى سياسة أوسع تقضي باستبعاد الشركات المدرجة في قاعدة بيانات الأمم المتحدة من التعاقدات البلدية.
هذا يعكس توجّهًا سياسيًا - حقوقيًا متسقًا مع مواقف مدريد التي أدانت توسيع المستوطنات واعتبرتها "انتهاكًا للقانون الدولي" في 15 أغسطس 2025.
جذور الإشكال.. استثمارات "ألستوم" في القدس المحتلة
تعود علاقة "ألستوم" بالقدس إلى مشاركتها ضمن ائتلاف CityPass الذي بنى وشغّل ترام القدس (الخط الأحمر) منذ أوائل الألفية.
لعبت دورًا في التوريد والصيانة عبر شركات تابعة، مع توريد عربات Citadis للخط الذي يمر داخل القدس الشرقية المحتلة ويربط المستوطنات بالقدس الغربية.
ورغم انسحابها من مناقصة التوسعة في 2019 وانتهاء عقدها في المشروع في 2021 عندما تسلّمت شركات أخرى التشغيل، إلا أن توثيق المنظمات الحقوقية والإدراج الأممي أبقيا اسمها مرتبطًا بالمشروع المُدان حقوقيًا.
حجم استثمارات ألستوم في مصر وإسبانيا
في إسبانيا، سجلت ألستوم مبيعات بقيمة 809 مليون يورو في 2024/2025، وأسهمت في دعم أكثر من 7,300 وظيفة، وساهمت بمبلغ 400 مليون يورو في الناتج المحلي الإجمالي الإسباني.
في مصر، أنشأت شركة ألستوم مجمعاً صناعياً يحتوي على منشأتين: الأولى لإنتاج مكونات أنظمة السكك الحديدية، والثانية لإنتاج القطارات، في استثمار استراتيجي ضخم يدعم تطوير النقل الوطني ويعزز الصناعة المحلية
مصر: توسّع في العقود رغم الجدل
على النقيض من إسبانيا، تمضي مصر في توسيع استثماراتها مع "ألستوم"، ففي أغسطس 2019 وقّعت هيئة الأنفاق عقدًا ضخماً بقيمة 2.7 مليار يورو مع ائتلاف تقوده "ألستوم" ويضم أوراسكوم للإنشاءات والمقاولون العرب، لتصميم وإنشاء وتشغيل وصيانة خطّي المونوريل (العاصمة الإدارية - شرق النيل بطول ~57 كم، و6 أكتوبر - غرب النيل بطول ~42 كم) لمدة 30 سنة بعد الافتتاح.
كما حصلت "ألستوم" في نوفمبر 2021 على عقد 876 مليون يورو لتوريد 55 قطار مترو متروبوليس لخط مترو القاهرة الأول مع صيانة 8 سنوات.
هذه المشاريع تأتي فوق عقود أقدم لتحديث إشارات سكة بني سويف - أسيوط بقيمة 100 مليون يورو.
أرقام ومقارنات.. ماذا تكسب القاهرة؟
الاستثمار المصري مع "ألستوم" يعني عمليًا:
- 96 كم من المونوريل المخطط، و70 قطار Innovia 300 مُصنَّع، مع تشغيل آلي.
- 30 سنة من التشغيل والصيانة، ما ينقل العبء المالي والتقني طويل الأمد إلى مشغّل أجنبي بشروط العقد.
- تحديث الإشارات على محاور رئيسية وزيادة سعة مترو القاهرة (خط 3 بسرعة تشغيلية حتى 80 كم/س وطاقة 60 ألف راكب/ساعة/اتجاه بحسب وثائق الشركة).
هذه مؤشرات تُستخدم رسميًا لتبرير جاذبية الشريك الفرنسي، لكنها تُظهر أيضًا ارتهانًا تقنيًا ممتدًا وتحوّلًا في موازين الإنفاق العام نحو عقود ضخمة طويلة الأجل مع شركة مثار جدل حقوقي في أوروبا.
منطق مدريد مقابل منطق القاهرة
تُصعِّد إسبانيا إجراءاتها الرمزية والعملية ضد الاستيطان؛ من إيقاف صفقات مع شركات إسرائيلية، إلى التفكير في عقوبات على مستوطنين عنيفين، وصولاً إلى سياسات مشتريات محلية تستبعد شركات مُدرجة في قاعدة بيانات الأمم المتحدة.
هذا يخلق بيئة قانونية أخلاقية تضغط على الشركات المتهمة بالمساهمة في ترسيخ الاستيطان.
في المقابل، تُقدّم القاهرة أولويات عاجلة في النقل الحضري وتوسعة الشبكات كذريعة للمضي في الشراكات، دون اكتراث واضح لتبعات السمعة أو لمخاطر إدراج الشريك في قواعد بيانات أممية.
النتيجة مفارقة؛ عاصمة متوسطية تستبعد الشركة لأسباب حقوقية، بينما عاصمة عربية توسّع عقودها معها في لحظة حساسة إقليميًا.
قال وزير الخارجية الإسباني خوسيه مانويل ألباريس إن قرار إسرائيل بناء 3,000 وحدة استيطانية يمثل "انتهاكًا جديدًا للقانون الدولي ويقوّض حل الدولتين"، وهو موقف ينسجم مع مناقصات برشلونة وسياسة الاستبعاد من التعاقدات.
في المقابل، لا تُظهر القاهرة خطابًا حقوقيًا موازيًا عند اختيار الشركاء، بل تُركّز على الجداول الزمنية والتمويل والإنجازات الإنشائية، ما يجعل الحديث الرسمي يغفل البعد الأخلاقي المرتبط بملفات الشركات.
لماذا يهم هذا الملف مصريًا؟
- مخاطر السمعة والالتزام: التعاقد مع شركة مُشار إليها في تقارير أممية ومنظمات حقوقية قد يعرّض المشروعات المصرية لانتقادات، أو حتى ضغوط تمويلية مستقبلية مع تغيّر سياسات بنوك ومؤسسات دولية تجاه سلاسل التوريد المرتبطة بالاستيطان.
- الاعتماد طويل الأمد: عقود تشغيل وصيانة تمتد 3 عقود تجعل القرار اليوم مُقيدًا غدًا، مع كلفة باهظة لأي تغيير شريك.
- البدائل: سوق السكك الحديدية العالمية لا يقتصر على "ألستوم"؛ هناك موردون آخرون قادرون على المنافسة تقنيًا وماليًا، ما يطرح سؤالًا عن معايير الاختيار والشفافية.
بهذا المعنى، تتبدّى المفارقة: إسبانيا، العضو في الاتحاد الأوروبي، تُعيد صياغة بوصلتها الأخلاقية لتقاطع الشركات المرتبطة بالاستيطان، بينما مصر، التي ترفع شعارات العدالة للقضية الفلسطينية، تمنح نفس الشركات عقودًا بمليارات اليورو دون نقاش عام كافٍ حول أبعادها الحقوقية.
وبينما تؤكد "ألستوم" أداءً ماليًا قويًا وقدرة تنفيذية عالية تمنحها الأفضلية التقنية، يظل السؤال المصري المطروح: هل تُوزن اعتبارات الكفاءة وحدها، أم يجب إدخال معيار حقوق الإنسان في بوابة التعاقدات العامة؟