رغم امتلاك مصر كل مقومات السياحة العالمية، من تاريخ وحضارة وآثار لا مثيل لها، إلا أن الواقع المؤلم يكشف عن فوضى وإهمال جعلت تجربة السائح في مصر محبطة، بل ومهينة في بعض الحالات.
فبدلًا من أن تعمل الحكومة على تحسين صورة البلاد في ظل أزمة اقتصادية خانقة وحاجتها الماسة للعملات الصعبة، تركت قطاع السياحة ينهار تحت وطأة البيروقراطية والفساد وسوء الإدارة، حتى باتت الشكاوى العلنية من السائحين العرب والأجانب تكشف عجز الدولة عن تقديم أبسط الخدمات.
أبرز الملاحظات التي تكشف الإهمال:
- إذلال عند كاونتر الفيزا:
السائح العربي الذي ينفق أمواله لدعم الاقتصاد المصري يجد نفسه واقفًا في طوابير مهينة عند كاونتر الفيزا لدفع 25 دولارًا، في مشهد يليق بدول متخلفة إداريًا لا بدولة تدّعي أنها مركز سياحي عالمي.
أين الحكومة من إنشاء تطبيق بسيط يتيح الدفع الإلكتروني أو ممرات للخدمة السريعة؟ لماذا تصر السلطات على هذه الإجراءات البدائية وكأنها تعاقب الزوار بدلًا من الترحيب بهم؟
- غموض وارتجالية في تسجيل الهواتف:
إجراء عبثي آخر يواجه السائح، وهو "كاونتر تسجيل الهواتف" الذي يثير الاستهجان.
لا أحد يعرف لماذا يتم تسجيل الهاتف الشخصي؟ هل هناك غرامات؟ هل هناك مخالفات؟
حتى الآن، الحكومة لم تكلف نفسها عناء توضيح الأسباب أو تطوير آلية حضارية تناسب القرن الواحد والعشرين. أي استثمار في السياحة يمكن أن ينجح وسط هذه الفوضى؟
- فوضى التاكسيات وغياب التنظيم:
خارج مطار القاهرة، يستقبل السائح مشهدًا مخزيًا: عشرات السائقين يطاردون الزوار بعبارات سوقية: "تاكسي يا باشا، تاكسي يا بيه"، وكأن الدولة بلا قوانين أو تنظيم. في أي دولة محترمة، هناك مكاتب رسمية وشركات معتمدة وتطبيقات آمنة.
أما في مصر، فالمرتزقة يسرحون ويمرحون دون رقابة، في فضيحة تكشف غياب الدولة عن المشهد تمامًا.
- القاهرة تفقد روحها.. والعلمين تلتهم كل شيء:
السائح الذي يأتي إلى القاهرة ليعيش أجواء الفن والثقافة، يجد نفسه أمام مدينة بلا روح. لا مسارح، لا حفلات، لا فعاليات كبرى، بينما كل شيء يُنقل إلى العلمين والساحل الشمالي لخدمة طبقة الأثرياء فقط.
النتيجة؟ القاهرة أصبحت مدينة للمطاعم والمجمعات التجارية و"التسول السياحي"، بعدما كانت عاصمة للفن العربي.
- مهزلة "تذكرتي" وحضور المباريات:
هل يعقل أن يطلب تطبيق "تذكرتي" من السائح فصيلة دمه وصورة شخصية لحضور مباراة كرة قدم؟ وكأننا نتحدث عن إجراءات أمنية لدخول منشأة عسكرية لا ملعب رياضي.
ثم يكتشف السائح بعد كل هذا العناء أن المقاعد نفدت، ليُطلب منه لاحقًا الذهاب إلى مركز آخر لاستخراج بطاقة ضخمة تُعلق في الرقبة.
هذه الممارسات تكشف عقلية أمنية متخلفة تدير ملف السياحة وكأنه ملف أمني.
- وصمة العار: أطفال الشوارع في قلب القاهرة:
كيف يمكن لدولة تدّعي أنها تخطط لجذب 30 مليون سائح أن تترك وسط القاهرة يعجّ بالأطفال المتسولين عند إشارات المرور؟
مشهد مخزٍ يسيء لصورة مصر أمام العالم، ويكشف غياب أي خطة حقيقية لمعالجة الفقر أو حماية هؤلاء الأطفال من العصابات والاستغلال الجنسي.
إنها ليست فقط جريمة اجتماعية، بل فضيحة سياحية بكل المقاييس.
حكومة بلا رؤية.. وخسائر فادحة في الطريق
المؤسف أن هذه الملاحظات ليست جديدة، بل تتكرر منذ سنوات، ومع ذلك تكتفي الحكومة بالتصريحات الرنانة دون أي تنفيذ على الأرض.
أين الخطط المعلنة لتطوير السياحة؟ أين مليارات الجنيهات التي تنفق على المؤتمرات والمهرجانات الإعلامية؟
لماذا نرى القاهرة أسوأ مما كانت قبل 10 سنوات بينما دول المنطقة مثل السعودية والإمارات تحقق قفزات مذهلة في السياحة؟
الحقيقة أن المشكلة ليست في السائح، بل في حكومة تفتقد الكفاءة، تتعامل مع السياحة بعقلية الموظف البيروقراطي لا المستثمر.
وإذا استمر هذا النهج، فإن مصر لن تخسر فقط السياح العرب، بل ستخرج من المنافسة الإقليمية تمامًا، في وقت تحتاج فيه البلاد لكل دولار لإنقاذ اقتصادها المتهالك.
تصريحات الخبراء والتحذيرات
يرى الخبير السياحي أحمد العمدة أن ما يحدث في قطاع السياحة المصري "إهمال فجّ، يدمر سمعة مصر عالميًا"، مضيفًا أن "السائح عندما يجد نفسه أمام إجراءات متخلفة، وفوضى في المواصلات، وغياب أي تنظيم، فإنه لن يعود مرة أخرى، بل سينقل تجربته السيئة إلى الآخرين".
ويحذر الخبير الاقتصادي هشام عبد الجواد من أن "استمرار هذه السياسات يعني خسارة مليارات الدولارات سنويًا، لأن مصر لم تعد وجهة تنافسية في ظل ما تقدمه السعودية والإمارات من بنية تحتية وخدمات عالمية".
أما الناقد السياحي طارق عبد العظيم، فيصف الوضع بـ"الكارثة الحقيقية"، مشددًا على أن "الحكومة تدير السياحة بعقلية أمنية متخلفة، وتغيب عنها أي رؤية للتسويق أو التسهيل الرقمي، في وقت أصبحت التكنولوجيا شرطًا أساسيًا لجذب السياح".
ويضيف خبير التسويق السياحي خالد النبوي أن "الصورة الذهنية عن مصر تتراجع بشكل مخيف، والإصلاح يحتاج قرارات جريئة وفورية قبل أن نخسر ما تبقى من سمعة مصر السياحية".
وأخيرا إذا استمرت هذه الفوضى والإجراءات البدائية، فإن مصر في طريقها لتصبح وجهة طاردة للسياح العرب والأجانب، بل ربما يتم استبدالها كليًا بوجهات أكثر حداثة وتنظيمًا في المنطقة.
هذا ليس تحذيرًا نظريًا، بل واقع يفرض نفسه؛ فالسائح لم يعد يقبل الإهانة ولا العشوائية. إنقاذ السياحة لم يعد خيارًا، بل مسألة حياة أو موت للاقتصاد المصري.