خلال الأيام الأخيرة، عمّت حالة من الفرح في الأوساط القانونية والحقوقية عقب صدور القرار الجمهوري رقم 447 لسنة 2025، الذي نصّ لأول مرة على تعيين قاضيات في مجلس الدولة، بعد عقود من الجدل والرفض المستمر لتولي النساء هذه المناصب. القرار شمل 46 قاضية من خريجات دفعة 2020، جنبًا إلى جنب مع زملائهن الذكور، في خطوة اعتُبرت على نطاق واسع نقلة نوعية في مسيرة المساواة بين الجنسين في مصر.

هذه الخطوة جاءت تتويجًا لمعركة ممتدة منذ عام 1949، بدأت مع الدكتورة عائشة راتب، مرورًا بأزمات كبرى أبرزها رفض الجمعية العمومية لمجلس الدولة في 2010 تعيين النساء بنسبة 99%، وصولًا إلى حملات مثل "المنصة حقها" بقيادة أمنية جاد الله، التي رحّبت بالقرار بعد سنوات من النضال. لا جدال أن إدماج النساء في مجلس الدولة ينسجم مع نصوص الدستور المصري التي تؤكد على المساواة وتكافؤ الفرص.

لكن الوجه الآخر لهذه "الخطوة التاريخية" يكشف واقعًا صادمًا: القرار لم ينهِ ممارسات المحسوبية ولا ألغى التمييز الطبقي الذي يضرب جذوره في البنية القضائية المصرية. بل على العكس، فإن 34% من إجمالي المعينين – رجالًا ونساءً – ينتمون لعائلات قضائية نافذة، وفق وثائق رسمية وتقارير صحفية. أي أن الإنجاز الجندري ترافق مع إعادة إنتاج ظاهرة توريث القضاء، لتظل السلطة القضائية حكرًا على أبناء القضاة والنخب.
 

توريث القضاء... عائلات تهيمن على العدالة
القائمة الجديدة للتعيينات تضم أسماء لامعة من أبناء وبنات قضاة بارزين ونواب رؤساء الهيئات القضائية، مثل أحمد عوض نجل المستشار عوض الملهطاني، وعلي منصور نجل المستشار منصور عبده منصور، بالإضافة إلى أبناء مستشارين آخرين من مجلس الدولة وهيئة قضايا الدولة والنيابة الإدارية. بل وصل الأمر إلى تعيين ابنتي المستشار سامي رمضان درويش في نفس الدفعة، ونجل قيادي أمني سابق في الشرطة.

هذه الأسماء تكشف أن القرار الجمهوري لم يكرّس مبدأ الكفاءة بقدر ما عمّق نفوذ العائلات القضائية، لتتكون لدينا "سلالات قضائية" تتوارث المناصب، بينما يُقصى أبناء الفئات الوسطى والمهمشة من المنافسة، رغم تفوقهم الأكاديمي والمهني. أين تكافؤ الفرص إذًا؟ وأين روح المادة 14 من الدستور التي تنص على أن الوظائف العامة حق للمواطنين على أساس الجدارة؟
 

إنجاز جندري مشروط بامتياز طبقي
فتح باب مجلس الدولة أمام القاضيات خطوة على الورق تعزز المساواة، لكنها عمليًا لم تحطم احتكار السلطة القضائية للنخب. فالقرار لم يكن قطيعة مع الماضي، بل استمرارًا لمنظومة التمييز، مع إضافة بعد جندري يُستخدم كغطاء لتجميل الصورة. النتيجة: امرأة قاضية نعم، لكن غالبًا من خلفية عائلية نافذة، لا من أبناء الشعب الذين لا يملكون سوى الكفاءة والطموح.
 

التداعيات: قضاء بلا عدالة اجتماعية
هذه السياسة تُفرغ القضاء من التنوع والكفاءات الحقيقية، وتخلق أجيالًا من القضاة تفتقر للخبرة الحياتية والاجتماعية، لأن كثيرًا منهم ينشأ في بيئات مغلقة داخل "الكمبوندات" بعيدًا عن واقع المجتمع المصري. كيف يمكن لقاضٍ لم يعرف إلا امتيازات النخبة أن يحكم بالعدل في قضايا الفقراء والطبقة الوسطى؟ وكيف نضمن أن العدالة ستظل قيمته العليا، وهو يعلم أن موقعه لم يكن ثمرة اجتهاد، بل ميراث عائلي؟

الأدهى من ذلك، أن هذه الممارسات ساهمت في تدهور المستوى المهني والثقافي للقضاة الجدد، مقارنة بجيل سابق كان يتمتع ببلاغة لغوية ومعرفة قانونية عميقة وخبرة إنسانية واسعة. اليوم، يشكو محامون ومراقبون من أن الأداء القضائي فقد بريقه، وأن كثيرًا من القضاة الجدد يفتقرون لأبسط أدوات النقاش القانوني الرصين.

وأخيرا فقرار تعيين القاضيات في مجلس الدولة قد يبدو إنجازًا تاريخيًا للمرأة المصرية، لكنه في جوهره مرآة لأزمة أعمق: احتكار النخبة للسلطة القضائية واستبعاد أبناء الشعب من المناصب العليا. إن الحديث عن المساواة الجندرية لا يكتمل من دون مساواة اجتماعية حقيقية، وإلا فإننا أمام "عدالة شكلية"