انتشر خلال الأيام الماضية فيديو للرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون وهو يتجوّل داخل متجر بسيط في إحدى مدن ولاية نيويورك، يحمل سلة صغيرة ويشتري حاجياته بنفسه، وسط الناس دون حراسة مشددة أو موكب ضخم.
المشهد بدا طبيعيًا في الغرب، لكنه أثار عاصفة من الجدل في العالم العربي: لماذا لا نرى رئيسًا عربيًا سابقًا يسير بين الناس بهذه البساطة؟
http://x.com/i/status/1959317566792642854
المشهد بدا صادمًا لأن ثقافة الحكم في الوطن العربي ما زالت أسيرة لفكرة "الحاكم المقدس"، الذي يعيش في أبراج عاجية محاطًا بالهالة والقداسة، بينما في الغرب، الرئيس مجرد موظف مؤقت، يخدم الشعب لفترة محدودة، ثم يعود مواطنًا عاديًا بلا قدسية ولا امتيازات.
لماذا يختبئ الرؤساء العرب بعد خروجهم من السلطة؟
الجواب بسيط: لأنهم يعرفون أن الشوارع ليست آمنة لهم، ليس بسبب الفوضى، بل بسبب الغضب الشعبي المكبوت.
هؤلاء الذين أمضوا سنوات في القمع، في نهب الثروات، في رفع الأسعار وتجويع الناس، في تكميم الأفواه، كيف سيخرجون اليوم بين من جاع بسبب سياساتهم؟ كيف سيقف أمام رجل فقد ابنه في السجون؟ أو أم أُهينت في قسم الشرطة؟ الحقيقة أن أي ظهور علني قد ينتهي بالسباب وربما الانتقام.
والحقيقة المُرّة أن رئيسًا عربيًا لو ظهر فجأة في الأسواق الشعبية، فلن يلقى التحية أو الابتسامة، بل قد يستقبل بسيل من الغضب والسباب وربما الضرب بالحجارة، لأن إرث القمع والفساد والظلم الذي خلّفه يجعل ظهوره خطرًا على حياته.
هؤلاء الحكام عاشوا طوال سنوات حكمهم بعيدًا عن الشعب، يحيطون أنفسهم بالجدران العالية والقصور المنيعة، فلم يعرفوا عن الناس إلا من خلال تقارير أجهزتهم الأمنية.
المحلل السياسي أحمد مراد يقول في تصريح خاص:
"هذه الأنظمة صنعت لنفسها مسرحًا من الأكاذيب والقداسة، لكنها تعرف الحقيقة: أن أي رئيس سابق إذا فقد حماية السلطة، يصبح مشروع انتقام، لذلك يعيش في عزلة أبدية أو يغادر البلاد خوفًا من مصير دموي."
الغرب: السلطة وظيفة.. لا وصاية
في الغرب، المشهد مختلف كليًا. الرئيس يُعامل كموظف تنفيذي يتقاضى راتبه من أموال دافعي الضرائب، وحين تنتهي ولايته، يعود إلى صفوف الشعب.
لذلك لا يثير ظهوره في الأماكن العامة أي ضجة. بيل كلينتون لم يكن الأول، فقد سبقه باراك أوباما الذي شوهد في مقاهي عادية، ورؤساء وزراء بريطانيا الذين غالبًا يتنقلون بدون مواكب لامعة.
الخبير الغربي جوناثان هايز يعلق:
"سرّ الأمر يكمن في التربية السياسية. الناس هناك يدركون أن السلطة ليست أبدية، وأن الحاكم خادم للشعب لا سيّد عليه. أما في العالم العربي، فالحاكم يظل سيّدًا حتى بعد خروجه من الحكم."
آراء الكُتّاب: بين السخرية والمرارة
الكاتب الفلسطيني نظام المهداوي كتب:
"في بلادنا، أن ترى رئيسًا سابقًا يتجول في سوق شعبي ويُعامل كأي مواطن، هذا أشبه بالمستحيل! السلطة هنا ربّانية مطلقة، والخروج منها يعني نهاية المسرحية، لا عودة إلى الحياة."
أما الكاتب جمال سلطان فأكد:
"لقد آن الأوان للنخب العربية أن تعترف بخطئها في تقديس الحاكم. الرئيس مجرد موظف، لكنه في عالمنا يتحول إلى أسطورة حتى بعد سقوطه من السلطة."
ياسر الزعاترة علّق قائلاً:
"لا يجرؤ حاكم عربي سابق على النزول إلى الشارع، ليس تواضعًا بل خوفًا. لو فعلها، سيسمع شتائم لم يسمعها في حياته كلها. هذا حصاد عقود من القمع، والدماء، والنهب. هؤلاء لم يعرفوا أن الشعوب لا تنسى، وأن التاريخ لا يرحم، حتى لو غطّوه بالجيوش والتماثيل."
أما عبد الباري عطوان فكتب بمرارة:
"في الغرب، حين يخرج الرئيس من الحكم، يعود إلى بيته، يشتري طعامه بنفسه، بلا رعب، بلا حصون. في عالمنا، الرئيس السابق يعيش سجينًا، لأنه يعرف أن مجرد ظهوره بين الناس قد يثير ثورة غضب. أي نظام يجعل قائده يخشى شعبه إلى هذا الحد، هو نظام فاشل بكل المقاييس."
وفي النهاية، فالمشهد الذي بدا طبيعيًا في أمريكا يبدو في بلادنا حلمًا بعيدًا، لأننا لا نملك آلية حقيقية لتداول السلطة ولا ثقافة ترى الحاكم كموظف.
وحتى يحدث ذلك، سيظل رؤساؤنا أسرى القصور، بينما يتجوّل بيل كلينتون في الأسواق بابتسامة عادية وسلّة خضار.