د. سعيد الحاج
كاتب وباحث في الشأن التركي
احتفل حزب العدالة والتنمية في تركيا قبل أيام بالذكرى الـ24 لتأسيسه، حيث كان قد أسس في الرابع عشر من أغسطس 2001، وهو يحكم البلاد منذ أول انتخابات خاضها في 2002. لكن المفارقة كانت أن المشهد السياسي في البلاد عج بأخبار أكبر أحزاب المعارضة، الشعب الجمهوري، المرتبطة بصراعاته ومشاكله الداخلية.
حالة الاستثناء
يتعرض الحزب الذي يحكم طويلا في الأنظمة الجمهورية عادة لتآكل شعبيته وتراجع حضوره بسبب تراجع الإنجازات، وترهل الكوادر، ورغبة الجماهير في التغيير، وغيرها من العوامل.
لكن حزب العدالة والتنمية يشكل استثناء بارزا لهذه القاعدة السياسية، حيث يحكم البلاد منذ 23 عاما بشكل متواصل، حتى 2018 وفق النظام البرلماني مشكلا حكومات بشكل منفرد، ومنذ 2018 وفق النظام الرئاسي.
وقد حل الحزب أولا في كل الانتخابات التي خاضها منذ تأسيسه: الرئاسية والبرلمانية والمحلية والاستفتاءات الدستورية، باستثناء الانتخابات المحلية الأخيرة التي حل فيها ثانيا بعد حزب الشعب الجمهوري.
يتعرض حزب العدالة والتنمية لكثير من النقد، جزء لا بأس به مستحق، وجزء يرتبط بالتدافع السياسي في البلاد، من قبيل التفرد في الحكم، والسيطرة على المشهد الإعلامي، واستخدام القضاء، وتراجع الأداء، وضعف المراجعات والتطوير، فضلا عن غياب/خروج عدد بارز من مؤسسيه وقياداته التاريخية، واتهامات بالفساد والمحسوبيات وغير ذلك.
وبغض النظر عن مدى دقة هذه الاتهامات والانتقادات، فإن توجيهها له وطول مدة حكمه كانا كفيلين بإخراج الحزب من مشهد الحكم في البلاد، لكن ذلك لم يحصل في حالة العدالة والتنمية بقيادة أردوغان، الذي أصبح السياسي الأطول حكما في البلاد، متخطيا مؤسس الجمهورية وحزب الشعب الجمهوري؛ مصطفى كمال أتاتورك نفسه.
اليوم، والحزب على أعتاب ربع قرن من الحكم المتواصل لدولة كبيرة ومحورية مثل تركيا، وفي حين كانت التوقعات بأن يتراجع حضوره السياسي والشعبي والانتخابي، ظهر الحزب بشكل أكثر قوة وثقة، متحدثا عن "قرن تركيا" ورؤيته لـ "تركيا القوية"، وبدا مبادرا أكثر منه مدافعا أو متهما.
وقد ساهمت ثلاثة متغيرات رئيسة في ذلك: أولها الزلزال السياسي الكبير في سوريا مع تغير النظام، بحيث صب ذلك سياسيا وإستراتيجيا وعسكريا وأمنيا في صالح تركيا، وحُسب بشكل أو بآخر في سجل إنجازات أردوغان، وخفف الضغوط الداخلية بخصوص السوريين المقيمين في تركيا، إضافة إلى مكاسب اقتصادية وتجارية كبيرة متوقعة.
والثاني مسار حل المسألة الكردية بعد إعلان حزب العمال الكردستاني وقف عملياته ضد تركيا، ثم حل نفسه وإلقاء السلاح، وهو أمر كذلك يصب في صالح تركيا الدولة وأردوغان كرئيس للبلاد، وسيكون في سجله إنجاز كبير كهذا إذا ما استمر المسار بدون عقبات حقيقية، فضلا عن المكاسب الأمنية والسياسية والاجتماعية المترتبة على نجاح المسار.
وأما المتغير الثالث، فهو ضعف المعارضة بشتى أحزابها، وتفرقها، وعدم قدرتها على إقناع الناخب التركي بأنها بديل حقيقي لأردوغان وحزب العدالة والتنمية، ونتحدث هنا بشكل أساسي عن حزب الشعب الجمهوري، أكبر أحزاب المعارضة.
مشاكل المعارضة
فشل حزب الشعب الجمهوري في هزيمة العدالة والتنمية وحكم البلاد بمفرده، ما دفعه لتشكيل ائتلاف معارض في السنوات الأخيرة تحت اسم "الطاولة السداسية"، ضمن ستة أحزاب سياسية من مختلف الطيف الحزبي التركي، بين علمانيين وإسلاميين وقوميين وليبراليين.
وقد اختارت الطاولة رئيس حزب الشعب الجمهوري في حينها، كمال كليجدار أوغلو، مرشحا رئاسيا لها لينافس أردوغان، حيث فاز عليه الأخير في جولة الإعادة.
قدمت الطاولة السداسية نفسها بديلا جماعيا لأردوغان وحزبه، وحلا لمشكلات تركيا، وخصوصا الاقتصاد، ووعدت بإعادة النظام البرلماني، بيد أن احتفاظ أردوغان بالرئاسة وتحالف "الجمهور" الحاكم بالأغلبية البرلمانية، أديا لتفجر المشكلات الكامنة داخل التحالف المعارض.
بعيد الانتخابات مباشرة، انفضت الطاولة السداسية، ودبت الخلافات بين أحزابها، وتبادلت الاتهامات وتحميل المسؤوليات، وفقد رئيسا حزبَي الشعب الجمهوري كليجدار أوغلو و"الجيد" ميرال أكشنار رئاسة حزبيهما ثمنا للخسارة.
شكلت الأحزاب المحافظة الثلاثة: السعادة والمستقبل والديمقراطية والتقدم، لاحقا تحالفا برلمانيا لتنسيق المواقف، ولكن هذه المرة من موقف الضعف، بعد انتهاء الانتخابات، حيث كانت قد فشلت في التوصل لاتفاق مشابه قبلها.
فيما يتعلق بالشعب الجمهوري، حمل كليجدار أوغلو مسؤولية الإخفاق الانتخابي، وتشكلت جبهة معارضة داخلية ضده استطاعت إزاحته عن رئاسة الحزب وانتخاب أوزغور أوزال مكانه.
ثم جاءت الصدمة الأولى برفع شكاوى من بعض كوادر الحزب بخصوص الهيئة العمومية التي انتخبت الأخير، والتشكيك بمشروعية رئاسته، وهي القضية التي ما زالت تنظر أمام المحاكم التركية، وتنتظر قرارا نهائيا قد يلغي الانتخابات، ويمكن أن يعيد كليجدار أوغلو رئيسا لفترة مؤقتة قبل عقد هيئة عمومية جديدة.
وعلى هامش هذا المسار القضائي، تبادل الطرفان، أوزال وكليجدار أوغلو، الاتهامات، وفشلت الوساطات بينهما، وصوّر الأخير على أنه "رجل النظام" الذي يحارب به أردوغان الحزب لتفتيته وإضعافه.
كما هددته قيادة الحزب بمنعه من دخول مقره في حال صدر القرار القضائي لصالحه، ليرد بأن "مقر الحزب هو حيث يتواجد رئيسه" في تأكيد على رغبته في تنفيذ القرار القضائي إن حكم بذلك.
وأما الطامة الكبرى، فكانت القبض على أكرم إمام أوغلو، رئيس بلدية إسطنبول الكبرى، والمرشح الرئاسي المتوقع لحزبه في الانتخابات الرئاسية المقبلة، والقيادي البارز في الحزب، الذي قاد تيار التغيير فيه وأتى بأوزال رئيسا له.
وقد شملت الاتهامات والتوقيفات عدة سياسيين ورجال أعمال وشخصيات من الحزب المعارض أو محسوبة عليه، من بينهم رؤساء بلديات فرعية في إسطنبول، كما تعمقت الخلافات داخل الحزب، وصولا لانضمام عدد من رؤساء بلدياته لحزب العدالة والتنمية في احتفاله بذكرى تأسيسه، وفي مقدمتهم رئيسة بلدية آيدن منذ 2009، أوزلام تشرشي أوغلو، التي أحدثت جدلا كبيرا بانتقالها.
قوة أم ضعف؟
ورغم أن تنقل البرلمانيين ورؤساء البلديات وغيرهم بين الأحزاب السياسية، وخصوصا الانضمام للأحزاب الأقوى، ظاهرة متكررة في الحياة السياسية التركية، فإنها صبغت اليوم بمشاكل الشعب الجمهوري واتهامات الفساد الموجهة له إلى حد كبير.
ورغم أنه لا يمكن الجزم بمدى صحة ودقة الاتهامات التي طالت عدة شخصيات قيادية في الحزب المعارض قبل صدور القرار القضائي النهائي، فإن الأمر أصاب الحزب في مقتل، إذ لم يقف عند وضعه موضع الشبهة والاتهام والدفاع عن النفس، ولكن كذلك فاقم مشاكله الداخلية، في منعطف تاريخي تمر به البلاد في المشهدين: الداخلي، والخارجي.
وعليه، بدل أن تناقش الأوساط السياسية والإعلامية حاضر حزب العدالة والتنمية ومستقبله، وتضعه على طاولة البحث والتقييم والنقد فيما يتعلق بسنواته الـ23 في الحكم والـ24 منذ التأسيس، كان الشعب الجمهوري الحاضر تحت مجهر الإعلام ومقصلة السياسيين.
وإذا ما كان ضعف المعارضة وتشتتها وأزماتها عامل قوة استفاد منه العدالة والتنمية- ضمن عوامل وأسباب أخرى- للبقاء في الحكم حتى اليوم، فإن ذلك يشكل عنصر ضعف للدولة. ذلك أن المعارضة القوية القادرة على المنافسة وتشكيل البديل مكسب لبلادها، حيث تدفع الحزب الحاكم للعمل الجاد وتمنع ترهله وتراجعه، وتشكل حالة رقابة حقيقية ولصيقة له، فضلا عن كونها خيارا محتملا ومتاحا أمام الناخبين.
وبالعكس تماما، فإن حالة المعارضة المشار لها تخفف حماسة الحزب الحاكم وتقلل شعوره بالمنافسة وخطر الاستبدال، وبالتالي تضعف حالة الرقابة والنقد والمراجعات والتطوير داخله، ما يساهم في الترهل وضعف الإنجاز.
اليوم، يواجه حزب الشعب الجمهوري مشاكله وخلافاته الداخلية وأزمته أمام القضاء، أكثر مما يواجه العدالة والتنمية وأردوغان في الساحة السياسية، وأما الأحزاب الإسلامية والمحافظة، فهي تدرك- ولا شك- أن فرصها محدودة جدا طالما بقي الرئيس التركي حاضرا في المشهد السياسي، وغاية ما تفعله هو تثبيت حضورها انتظارا لمرحلة ما بعد أردوغان في الحياة السياسية التركية، ما يترك الأخير وحزبه خيارا شبه وحيد بالنسبة للكثيرين اليوم.
ختاما، رغم ما سبق، لا ينبغي للعدالة والتنمية أن يركن للمشهد الحالي، ولا أن يراهن على استمرار ضعف المعارضة وتشتتها وبقائه خيارا حتميا للكثير من الناخبين.
فقد أثبتت السياسة التركية تقلباتها الشديدة والكبيرة، فضلا عن حالة السيولة في المنطقة والعالم، كما أكد الناخب التركي أكثر من مرة أنه قادر على إيصال رسائل احتجاج قاسية في صندوق الانتخاب إن لم يستمع له.
ولذلك، فإن الطريق الأصوب والأسلم أن يشكل الحزب الحاكم حالة تقييم ومراجعة وتقويم لنفسه قبل غيره، انتظارا لحالة سليمة بين الحزب الحاكم ومعارضته، قد تصل البلاد لها يوما ما.