في الوقت الذي تستعد فيه مصر لموسم زراعي جديد لمحصول القطن – أحد أقدم وأعرق المحاصيل الاستراتيجية في البلاد – يُخيّم شبح الفشل على القطاع، بعد تراكم مخزون قياسي من القطن من الموسم الماضي، بلغ نحو 56 ألف طن، لم تتمكن الحكومة من تسويقه أو تصديره أو حتى توزيعه داخليًا بشكل فعّال. وفي ظل تلك الكارثة، بات الفلاحون بين خيارين: الإحجام عن الزراعة أو المغامرة بمحصول قد لا يجد سوقًا.

فما هي بوادر الموسم الجديد؟ وما أسباب أزمة الموسم السابق؟ وهل الحكومة هي من أجهضت زراعة القطن في مصر؟ وما مستقبل هذا المحصول الذي لطالما كان رمزًا للاقتصاد الوطني؟

 

موسم 2024/2025.. فشل في التسويق وكارثة إنتاجية

في موسم 2024/2025، ارتفعت المساحات المزروعة بالقطن في مصر إلى قرابة 150 ألف فدان، وسط وعود من الحكومة بدعم المحصول والتوسع في تصديره، خصوصًا مع وجود طلب عالمي متزايد على القطن المصري فائق الطول.

لكن ما حدث فعليًا كان العكس تمامًا:

  • الإنتاج ارتفع بشكل جيد مقارنة بالمواسم السابقة.
  • التسويق انهار بالكامل، ولم تنجح الهيئة العامة للتحكيم واختبارات القطن ولا الشركة القابضة للغزل والنسيج في شراء المحصول من الفلاحين.
  • تراكمت كميات هائلة من القطن دون تسويق، بما يقارب 56 ألف طن من القطن الزهرة.
  • انخفضت أسعار القطن في السوق المحلي بشكل حاد، ما تسبب في خسائر مباشرة للفلاحين.

كل ذلك أدى إلى كارثة اقتصادية على صغار المزارعين الذين كانوا يأملون في تحقيق أرباح توازي تكاليف الزراعة المتزايدة في ظل أزمة الدولار وارتفاع أسعار المستلزمات الزراعية.

 

بوادر الموسم الجديد (2025/2026): عزوف وقلق وتهديد بالانكماش

بينما يفترض أن يكون شهرا أغسطس وسبتمبر بداية التحضير الجاد لموسم القطن الجديد، فإن المشهد في المحافظات الرئيسية لزراعة القطن – كالدقهلية، وكفر الشيخ، والشرقية، والمنوفية، وسوهاج – لا ينبئ بالخير:

  • الفلاحون مترددون، وكثيرون منهم قرروا تقليص المساحة المزروعة بالقطن أو استبداله بمحاصيل أخرى أكثر ربحية مثل الذرة أو السمسم أو حتى البرسيم.
  • انعدام الثقة في وعود الحكومة، بعد الفشل الذريع في تسويق المحصول العام الماضي.
  • غياب خطة حكومية واضحة لتسويق القطن الحالي أو حتى كيفية التعامل مع المخزون الراكد من الموسم الماضي.
  • ضعف المحفزات المالية: لا دعم، لا تسعير عادل، لا حوافز تصديرية.

كل تلك المؤشرات تؤكد أن موسم 2025/2026 قد يشهد أقل معدلات زراعة للقطن في مصر منذ عقود، وهو ما ينذر بخطر استراتيجي حقيقي على اقتصاد زراعي يعاني أصلًا من التهميش والتآكل.

 

الحكومة.. من وعدت بالتطوير إلى من تسببت في التراجع

رغم الترويج المستمر من قبل وزارة الزراعة ووزارة قطاع الأعمال العام لمبادرات تطوير زراعة القطن، فإن الواقع يقول عكس ذلك:

  1. فشل منظومة التسويق
    الحكومة لم توفر آلية عادلة لضمان شراء المحصول بسعر مربح.
    لم تُفعّل آلية المزاد العلني بشكل فعال.
    لم تتمكن من إقناع الشركات الأجنبية أو المحلية بشراء القطن المصري، رغم جودته المعروفة عالميًا.
     
  2. غياب دور الشركة القابضة للغزل والنسيج
    كان من المفترض أن تقوم الشركة بشراء كميات كبيرة من القطن لتغذية مصانعها، لكنها تذرعت بأزمات مالية ولم تلتزم بتعهداتها.
    لم تجرِ حملات إعلامية للترويج للقطن المصري عالميًا.
     
  3. ضعف السياسات التحفيزية
    لا توجد سياسة دعم مستقر لسعر القطن تضمن ربحًا معقولًا للفلاح.
    عدم ثبات منظومة الزراعة التعاقدية يجعل الفلاح يعمل في ظروف ضبابية.

 

الخسائر الفادحة للمزارعين
المزارعون لم يخسروا فقط أموالهم، بل فقدوا الثقة في الحكومة وفي جدوى زراعة محصول استراتيجي مثل القطن:

  • متوسط تكلفة الفدان ارتفعت إلى ما يقارب 30 ألف جنيه، بسبب غلاء الأسمدة والمبيدات والعمالة.
  • في المقابل، متوسط العائد انخفض بشكل كبير، ووصلت سعر القنطار إلى أقل من 4000 جنيه في بعض المناطق، وهو لا يغطي نصف التكاليف.
  • كثير من الفلاحين اضطروا لبيع القطن لمصانع أو تجار خاصين بأقل من سعر التكلفة فقط لتقليل الخسائر.
  • بعض الفلاحين أحرقوا المحصول أو تركوه في الحقول دون جني.

 

مخاطر استراتيجية على الاقتصاد المصري
القطن المصري ليس مجرد محصول زراعي، بل هو:

  • منتج ذو علامة تجارية عالمية.
  • رافعة لصناعة النسيج الوطنية التي كانت من أكبر صادرات مصر حتى الثمانينيات.
  • قطاع يمكن أن يوفر آلاف فرص العمل ويعزز العملة الصعبة عبر التصدير.

لكن في ظل السياسات الحكومية الحالية، هناك خطر حقيقي يتمثل في:

  • فقدان المكانة العالمية للقطن المصري.
  • خروج الفلاحين من دورة إنتاج المحصول نهائيًا.
  • انهيار صناعة الغزل والنسيج المحلية بسبب ضعف الإمداد من المادة الخام الأساسية.

 

هل هناك حلول؟
رغم الأزمة، لا يزال هناك وقت لإنقاذ موسم القطن القادم، لكن ذلك يتطلب:

  1. تدخل عاجل من الحكومة
    شراء المخزون الراكد بأسعار عادلة.
    تخصيص ميزانية لدعم سعر القطن للموسم الجديد.
    فتح باب التصدير بشكل حر دون قيود بيروقراطية.
     
  2. تفعيل الزراعة التعاقدية
    ضمان تسويق القطن مسبقًا بأسعار مربوطة بالسوق العالمي.
    إشراك القطاع الخاص والشركات متعددة الجنسيات في عملية الزراعة والشراء.
     
  3. تطوير حلقات الصناعة والترويج
    دعم مصانع الغزل والنسيج لتستخدم القطن المحلي بدلًا من المستورد.
    إطلاق حملة دولية لترويج القطن المصري في الأسواق الأوروبية والآسيوية.

 

إنقاذ المحصول أو دفنه؟
القطن المصري، الذي تغنى به الأدب والفن والسياسة، يواجه اليوم خطرًا حقيقيًا.
فشل الحكومة في التسويق، وغياب الدعم، وعزوف المزارعين، وغياب خطة متكاملة كلها عوامل تشير إلى أن مصر على وشك خسارة واحدة من أعظم روافدها الزراعية والصناعية.

إذا لم يتدخل العقلاء فورًا بخطط عاجلة وحقيقية، فإن الموسم القادم قد يكون بداية النهاية لزراعة القطن في مصر.
فهل هذا ما تريده الحكومة، أم يتدخل أصحاب الخبرات واقامات الوطنية لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من "الذهب الأبيض" المصري؟