في مشهد غير مألوف ومعبّر عن مزاج شعبي متصاعد، تداولت وسائل إعلام بريطانية وأوروبية، يوم الإثنين 15 يوليو 2025، مقطع فيديو يُظهر طرد رئيس الوزراء البريطاني ريتشي سوناك من إحدى الحانات (خمارة) وسط العاصمة لندن، بعدما واجه هجومًا لفظيًا ورفضًا شعبيًا بسبب دعمه المستمر لإسرائيل في عدوانها على غزة.
ووفقًا لتقارير نشرتها صحيفتا The Guardian وDaily Mirror، فقد واجه سوناك أثناء زيارته المفاجئة لأحد الحانات في حي "هاكني"، مجموعة من الشبان الذين اتهموه بـ"التواطؤ مع المجرمين"، و"مشاركة جيش الاحتلال في جرائمه ضد الإنسانية"، ليضطر إلى مغادرة المكان تحت حماية أمنية.
الحادثة ليست الأولى من نوعها؛ فقد شهدت عدة عواصم أوروبية مظاهرات شعبية غاضبة طيلة عام 2024 و2025 ضد المجازر الصهيونية في غزة، حيث أدت الحرب الأخيرة التي بدأت في أكتوبر 2024 إلى مقتل أكثر من 38 ألف فلسطيني، من بينهم 17 ألف طفل وامرأة، بحسب بيانات وزارة الصحة في غزة ومنظمة الصحة العالمية.
وبينما حافظت الحكومات الغربية -خاصة بريطانيا وألمانيا والولايات المتحدة- على دعمها السياسي والعسكري لإسرائيل، عبّرت الشعوب عن رفضها، حيث خرجت أكثر من 120 مظاهرة كبرى في لندن، باريس، برلين، وأمستردام خلال 8 شهور فقط، رفعت شعارات مثل "كفى دعمًا للقتل"، و"أوقفوا تسليح تل أبيب".
كما وثق مركز "Palestine Action" البريطاني أكثر من 60 عملية اقتحام ووقف عمل مؤقت لمصانع أسلحة أو شركات مشاركة في تصدير معدات عسكرية لإسرائيل، خصوصًا شركة "إلبت سيستمز" التي تعرّضت لحصار واحتجاجات متواصلة.
خنوع رسمي عربي..
في المقابل، بدا المشهد العربي رسميًا صامتًا أو مشاركًا ضمنيًا في هذه السياسات، حيث واصلت أنظمة عربية -وعلى رأسها نظام قائد الانقلاب العسكري المصري عبد الفتاح السيسي- تطبيع العلاقات الاقتصادية والسياسية والأمنية مع إسرائيل، في وقت كان فيه أهالي غزة يدفنون ضحاياهم تحت الأنقاض.
وفي تقرير صدر عن منظمة "هيومن رايتس ووتش" في مارس 2025، أشارت إلى أن الجيش المصري شدّد حصاره لمعبر رفح، ومنع دخول مئات الشاحنات من المساعدات الغذائية والطبية، في وقتٍ كانت فيه مستشفيات القطاع على وشك الانهيار.
كما نقلت صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية في تقرير لها بتاريخ 2 مايو 2025 أن هناك تفاهمًا أمنيًا ثلاثيًا بين إسرائيل ومصر والولايات المتحدة لضبط الحدود ومنع "تهريب الأسلحة والمقاتلين"، ما اعتبره مراقبون مشاركة ضمنية في حصار المقاومة الفلسطينية.
اكتفت الجامعة العربية بإصدار بيان خجول في ديسمبر 2024 يدعو إلى "ضبط النفس"، دون تحميل إسرائيل أي مسؤولية قانونية أو إنسانية، وهو ما أثار سخرية واسعة بين المثقفين العرب والنشطاء، الذين وصفوا الجامعة بأنها "فرع دبلوماسي لوزارة الخارجية الإسرائيلية".
الكاتب الفلسطيني ساري عرابي علق عبر حسابه: "الغرب يطرد زعماءه من الحانات لوقوفهم مع إسرائيل، والعرب يستضيفون القتلة في مؤتمرات الاستثمار، ويمنحونهم صكوك الشرعية".
مؤشرات على تصدع التأييد الغربي لإسرائيل
ورغم المواقف الرسمية المتواطئة، تشير استطلاعات رأي غربية إلى انخفاض التأييد الشعبي لإسرائيل في أوروبا وأميركا.
ففي استطلاع أجرته مؤسسة YouGov في أبريل 2025، أبدى 63 % من البريطانيين رفضهم لتورط حكومتهم في دعم إسرائيل، واعتبروا أن هذا الدعم "يسهم في الإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين".
كما وقّع أكثر من 800 أكاديمي بريطاني بيانًا في جامعة أكسفورد يدين ممارسات الاحتلال، ويطالب بفرض عقوبات على إسرائيل ووقف صفقات السلاح فورًا، على غرار العقوبات المفروضة على روسيا.
في السنوات الأخيرة، تزايدت الأصوات العالمية التي تندد بالممارسات الصهيونية في الأراضي المحتلة، وبرزت تحركات ومؤتمرات تؤكد أن السياسات الإسرائيلية تمثل نظام فصل عنصري وتطهيرًا عرقيًا بحق الفلسطينيين.
من أبرز هذه الأحداث، انعقاد مؤتمر فيينا ضد الصهيونية في يوليو 2025، حيث خرج المؤتمر بتوصيات تدعو إلى:
- نزع الشرعية عن سياسات إسرائيل واعتبارها دولة تطبق سياسات الفصل العنصري على غرار جنوب أفريقيا سابقًا.
- الدعوة لإقامة دولة ديمقراطية على كامل أرض فلسطين تضمن المساواة بين سكانها بغضّ النظر عن العِرق والدين.
- بناء جبهة أممية واسعة لمحاسبة مجرمي الحرب الإسرائيليين والاستثمار بالأطر القانونية الدولية.
كذلك استمرت منظمات دولية مثل منظمة العفو الدولية في نشر تقارير رصينة تؤكد فرض إسرائيل لنظام قمع وهيمنة على الفلسطينيين، موضحة أن “نظام الفصل العنصري أمر غير مقبول في أي مكان في العالم”، ومطالبة دول العالم بوقف التواطؤ ومحاسبة الاحتلال
في العالم العربي، كان التضامن الشعبي مع فلسطين جريمة تُعاقب في بعض البلدان، ففي مصر، اعتقلت قوات الأمن عشرات النشطاء لمجرد مشاركتهم في وقفات رمزية أو كتابة منشورات داعمة لغزة، ووفقًا لتقرير "المفوضية المصرية للحقوق والحريات"، تم رصد 48 حالة اعتقال خلال شهري نوفمبر وديسمبر 2024 على خلفية تهم "نشر أخبار كاذبة" و"الانتماء لجماعات محظورة".
وفي الإمارات والسعودية، تم حظر التجمعات والتظاهرات المؤيدة لغزة، رغم العلاقات الاقتصادية والعسكرية المتزايدة مع إسرائيل خلال السنوات الأخيرة.
حادثة طرد رئيس الوزراء البريطاني من خمارة، على بساطتها، تُشكّل علامة فارقة في تعبير الشعوب عن رفضها للسياسات المنحازة لإسرائيل، في وقت تبدو فيه الحكومات الغربية والعربية على حد سواء أسيرة حسابات المصالح والضغط الصهيوني.
لكن في المقابل، يتضح أن الوعي الشعبي الدولي بما فيه الغربي بدأ يتحرك خارج الأطر الرسمية، فيما الأنظمة العربية تتراجع حتى عن الحد الأدنى من التضامن، وتصرّ على سياسات تطبيع لا تعكس ضمير شعوبها.
وبينما تنمو مقاومة عالمية ضد الاحتلال الصهيوني، تزداد عزلة الأنظمة العربية التي تخلّت عن فلسطين، لتبقى الحقيقة أن من يطرد زعماءه من الخمارات أصدق من من يعتقل مواطنيه في المساجد.