في مشهد يعكس اتساع الهوة بين مؤسسات النظام المصري والرأي العام المعارض للتطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي، تقدم عدد من المحامين المصريين ببلاغات رسمية أمام مجلس الدولة يوم الإثنين 15 يوليو 2025 ضد ثلاثة وزراء في حكومة عبد الفتاح السيسي، للمطالبة بوقف حفل مرتقب لفرقة غربية متهمة بدعم الكيان الإسرائيلي. البلاغات قُدمت ضد كل من وزيرة الثقافة نيفين الكيلاني، ووزير السياحة والآثار أحمد عيسى، ووزير الداخلية محمود توفيق.
الفرقة المعنية هي "Imagine Dragons"، وهي فرقة أمريكية شهيرة تواجه انتقادات واسعة بسبب موقفها المؤيد لإسرائيل، بعد إحيائها حفلات داخل مستوطنات إسرائيلية عام 2023 خلال العدوان على غزة. ويتهمها النشطاء بأنها تروج لسياسات الاحتلال وتجمّل صورته أمام العالم.
خلفية الأزمة.. فرقة سكوربيونز وحفل المرتقب في الأهرامات
في منتصف يوليو 2025، أعلنت الشركة المنظمة عن إقامة حفل موسيقي ضخم لفرقة الروك الألمانية العالمية "سكوربيونز" عند أهرامات الجيزة في 15 أكتوبر 2025، بمناسبة مرور 60 عاماً على تأسيس الفرقة، في عودة تأتي بعد عشرين عاماً من حفلها السابق في مصر عام 2005 والذي جرى حينها بدعم من السفارة الألمانية ووزارة الثقافة المصرية.
غير أن احتفاء الحكومة بهذا الحدث قُوبل بردود فعل غاضبة على مواقع التواصل الاجتماعي، تبلورت في وسم "#cancelscorpions" الذي تصدر منصات الإنترنت مع مطالبات واسعة بإلغاء الحفل فوراً.
تتهم قطاعات واسعة من الناشطين الفرقة بدعم الكيان الإسرائيلي، لا سيما وأنها رفعت علم إسرائيل علناً في مناسبات سابقة، ما جعلها رمزا للمواقف المناهضة للقضية الفلسطينية في نظر الرأي العام المصري والعربي.
"Imagine Dragons" في مصر رغم الحصار على غزة
من المقرر أن تحيي الفرقة حفلاً جماهيريًا في القاهرة يوم 2 أغسطس 2025 في "كايرو فستيفال سيتي"، بحسب ما أُعلن عبر موقع الفرقة الرسمي ومنصات التذاكر العالمية، الإعلان عن الحفل أثار سخطًا شعبيًا، خاصة في ظل استمرار العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة منذ أكتوبر 2023، والذي خلف أكثر من 38 ألف شهيد، وفقًا لوزارة الصحة الفلسطينية.
ورغم أن عدة دول أوروبية مثل إسبانيا وجنوب إفريقيا اتخذت مواقف حاسمة ضد إسرائيل، وعلقت بعض الفعاليات الفنية بسبب الجرائم المرتكبة في غزة، تواصل الحكومة المصرية، وفق منتقدين، الانخراط في "تطبيع ناعم" عبر استضافة فنانين يدعمون الاحتلال.
السيسي والتطبيع..
تتزايد الاتهامات ضد نظام السيسي باستخدام الفنون كأداة لتبييض صورته دوليًا، بينما يغض الطرف عن ممارسات داعمي الاحتلال، فاستضافة حفلات لفرق متورطة في دعم جرائم حرب يأتي استكمالًا لمسار التطبيع الذي بدأ منذ توقيع "اتفاقات الغاز" مع الاحتلال عام 2018، والتي بموجبها أصبحت مصر تستورد الغاز من إسرائيل رغم امتلاكها موارد كافية.
وتساءل المحامي الحقوقي خالد علي، عبر منشور له على فيسبوك: "كيف تسمح الدولة المصرية لفرقة دعمت الاحتلال في أوج قصفه لغزة بالدخول لمصر؟ أليست هذه خيانة لدماء الأبرياء؟"
توقيت البلاغ وتداعياته الشعبية
تم تقديم البلاغ في النصف الأول من يوليو 2025، وجاء متزامناً مع تصعيد الخطاب الشعبي الرافض لأي محاولات لتطبيع العلاقات مع الاحتلال أو التهاون مع قضايا الهوية الوطنية.
ففي خطوة تصعيدية، قام المحاميان عصام رفعت خلف وعمرو عبد السلام بتقديم بلاغ رسمي أمام محكمة القضاء الإداري بمجلس الدولة في يوليو 2025 ضد كل من وزير الثقافة، ووزير السياحة والآثار، ووزير القوى العاملة، بالإضافة إلى رئيس الرقابة على المصنفات الفنية ونقيب المهن الموسيقية، مطالبين بإلغاء كافة التصاريح الممنوحة لإقامة الحفل ومنع دخول أي معدات أو آلات موسيقية إلى منطقة الحفل ووقف كامل للتحضيرات الجارية.
تستند حيثيات البلاغ إلى ثلاثة محاور رئيسية:
- مخالفات إجرائية: عدم استكمال التراخيص القانونية وافتقار الحدث لموافقة اللجنة العليا للمهرجانات.
- اعتراضات ثقافية ودينية: تعارض الحفل مع الهوية الوطنية والدينية للمجتمع المصري.
- مخاوف لوجستية وأمنية: تقييد الحضور للفئة العمرية فوق 16 عاماً ومنع إدخال الهواتف والكاميرات.
وقد أكّد مقدمو البلاغ على أن السماح بحفل كهذا يضعف السيادة الثقافية المصرية، خاصة في ظل حقيقة أن السياسات الحكومية تسهل مثل هذه الأحداث دون اعتبار لمشاعر الشعب ولا لدماء الضحايا الفلسطينيين، بحسب تعبيراتهم.
بلاغات قانونية... في وجه التطبيع
المحامون الذين تقدموا بالبلاغات استندوا إلى مواد الدستور المصري التي تنص على أن "مصر تدعم القضايا العادلة وعلى رأسها القضية الفلسطينية"، كما أشاروا إلى اتفاقيات منع التمييز العنصري ودعم حقوق الإنسان التي وقعت عليها مصر، والتي يرون أن استضافة فرقة مثل "Imagine Dragons" تمثل انتهاكًا لها.
وجاء في البلاغ المقدم إلى مجلس الدولة: "إن إقامة هذا الحفل على الأراضي المصرية يمثل استفزازًا لمشاعر ملايين المصريين الذين يرفضون الاحتلال الإسرائيلي ويقفون مع القضية الفلسطينية، خاصة بعد توثيق مواقف الفرقة السياسية الواضحة والمنحازة للاحتلال."
دعم شعبي متزايد..
منذ الإعلان عن الحفل، دشن نشطاء على مواقع التواصل وسم #أوقفوا_ImagineDragons_في_مصر ، والذي تصدر منصات "X" (تويتر سابقًا) و"فيسبوك"، حيث دعا آلاف المستخدمين إلى مقاطعة الحفل والضغط لوقفه، وظهرت دعوات لتنظيم وقفات احتجاجية أمام مقر الحفل، بينما نشر فنانون ومثقفون مصريون بيانات تندد بالتطبيع الثقافي.
من جانبها، لم تصدر حكومة الانقلاب المصرية حتى الآن أي تعليق رسمي بشأن البلاغات أو المطالبات الشعبية، ما أثار انتقادات إضافية حول تجاهل صوت المواطنين في قضايا تتعلق بالكرامة الوطنية.
النظام يواصل "إدارة الغضب" بلا حلول حقيقية
تأتي هذه الأزمة ضمن سلسلة طويلة من التحركات التي يصفها معارضو النظام بأنها تعكس نهج "إدارة الغضب لا الاستجابة له"، فبدلاً من تبني سياسات تعكس الإرادة الشعبية، تواصل حكومة السيسي المضي قدمًا في أجندات مشبوهة تطبع مع الكيان الإسرائيلي فنيًا واقتصاديًا، وسط تدهور اقتصادي غير مسبوق، وارتفاع التضخم بنسبة 38% في يونيو 2025 وفق بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء.
ويؤكد مراقبون أن النظام يحاول استغلال الفعاليات الفنية الكبرى لصرف الأنظار عن الأزمات الداخلية المتفاقمة، مثل تراجع قيمة الجنيه، وتزايد أعباء الديون الخارجية التي تجاوزت 170 مليار دولار، بحسب تقرير صندوق النقد الدولي الأخير.
تكشف هذه الواقعة مجددًا عن عجز النظام عن قراءة المزاج الشعبي، خاصة مع تصاعد موجة التضامن العربي مع غزة، ففي الوقت الذي يرفض فيه المواطن البسيط شراء المنتجات الداعمة للاحتلال، تفتح الدولة أبوابها لحفلات ترفيهية تروج للتطبيع.
وهو ما عبر عنه المحلل السياسي سيف عبد الفتاح بقوله: "النظام لا يتصرف كجزء من وجدان الأمة، بل كأداة تنفذ أجندات دولية مقابل بقائه في الحكم، حفلة واحدة كفيلة بكشف زيف كل ادعاءاته عن الانحياز للقضية الفلسطينية."