مع بداية العام المالي الجديد الذي بدأ رسمياً في 1 يوليو 2025، تفتح وثيقة الموازنة العامة للدولة للعام المالي 2025-2026 أبواب القلق على مصراعيها، وتطرح تساؤلات موجعة حول من يدفع تكلفة الفشل المالي، ومن يحصد تبعاته.
فالتمعّن في أرقام الموازنة يكشف بوضوح أن البلاد أمام سياسة مالية قائمة على أمرين: تدوير الديون بلا سقف، وتحصيل الضرائب بلا رحمة، حيث تُحمّل الدولة المواطن كلفة العجز والفوائد وخططها الاقتصادية المتعثرة، فيما تُدار الأولويات بمعزل عن الواقع الاجتماعي والاقتصادي القاسي الذي يرزح تحته أغلب المصريين.
الضرائب تقود الإيرادات.. لكن لمن تذهب؟
تستهدف الموازنة الجديدة رفع إيرادات الدولة إلى 3.1 تريليونات جنيه، بزيادة نسبتها 23% عن العام السابق. لكن نظرة فاحصة تكشف أن نحو 85% من هذه الإيرادات مصدرها الضرائب فقط، فيما لا تمثل إيرادات الأنشطة الاقتصادية أو التصنيع أو الإنتاج سوى نسبة ضئيلة.
وتزداد الخطورة حين نعلم أن فوائد الديون وحدها ستلتهم أكثر من نصف إجمالي المصروفات، بواقع 2.3 تريليون جنيه من أصل 4.6 تريليونات جنيه، وهي زيادة قدرها 27.8% عن العام المالي المنتهي. بل إن إجمالي ما يُخصص من الإيرادات لسداد أصل الدين والفوائد يصل إلى 100% من الإيرادات العامة تقريباً، ما يجعل الدولة تُدار كمؤسسة هدفها الأول والوحيد هو سداد أقساطها لا خدمة شعبها.
اقتراض يتضاعف.. بلا عائد إنتاجي
رغم التصريحات الحكومية المتكررة عن نية تقليص الدين الخارجي، تشير بيانات المبادرة المصرية للحقوق الشخصية إلى أن نسبة الاقتراض الخارجي زادت بنسبة تفوق 186% مقارنة بالعام السابق، في خطوة تؤكد أن الحكومة تمضي بثبات في نفس المسار الذي ضاعف أعباء الدين والفوائد.
والأخطر، أن هذا الاقتراض لا يذهب إلى دعم الإنتاج المحلي أو إلى تنمية الصناعة أو تحفيز الصادرات، بل يُضخ في مشروعات لا تمثل أولوية حالياً، أبرزها العاصمة الإدارية الجديدة، التي أنفق عليها أكثر من 60 مليار دولار رغم أن عدد سكانها لا يتجاوز 25 ألف شخص، وفقًا لرئيس الشركة المنفذة.
غياب الأولويات الاقتصادية.. وترك القطاعات الحيوية
في مقابل هذا الإنفاق الهائل، يُلاحظ تراجع واضح في الدعم الموجه للقطاعات الإنتاجية، فلا يوجد تركيز حقيقي على الزراعة أو الصناعة أو الطاقة المتجددة، ولا على تشجيع استثمارات جديدة في التكنولوجيا أو تنمية الصعيد أو سيناء، في وقت توجه فيه الحكومة اهتمامها إلى بيع الأصول الحكومية، بما فيها شركات وبنوك ومستشفيات وأراضٍ مملوكة للدولة.
كما تتراجع مخصصات الدعم تدريجيًا، سواء للطاقة أو المياه أو النقل أو السلع الأساسية، وهو ما يظهر في سلسلة الزيادات المستمرة للأسعار التي لم تتوقف حتى اليوم، والتي أرهقت المواطن الطبقي البسيط والمتوسط على حد سواء.
أين يذهب ما تبقى؟
بعد اقتطاع فوائد الديون، والإنفاق على مشروعات كبرى غير عاجلة، تتضاءل المخصصات لبنود أساسية مثل الأجور والدعم والاستثمار العام والخدمات العامة.
وتُطرح أسئلة كبيرة: ما الذي يتبقى من الموازنة للأجور؟ كيف ستتمكن الدولة من شراء الوقود والغذاء والدواء؟ وهل تتوفر سيولة كافية للحفاظ على استقرار العملة والأسواق؟
في المقابل، الحكومة لا تطرح أي خطة واقعية لتخفيض الدين، وكل ما يتم حتى اللحظة هو تكرار للأساليب المعهودة: اقتراض جديد، طباعة نقود، رفع أسعار، زيادة ضرائب، وبيع ممتلكات.
شعب يتحمّل وحده عبء الإنفاق العام
معظم البنود الثقيلة في الموازنة تقع على كاهل المواطن، فبينما ترفع الدولة تقديرات الضرائب إلى 2.6 تريليون جنيه، فإنها في الوقت نفسه تخفض مخصصات الدعم، وتزيد الرسوم على الخدمات، ما يُنتج في المحصلة ضغطًا معيشيًا حادًا على المواطن الذي بات يدفع ثمن كل شيء: الدين، والفوائد، والمشروعات، والسياسات.