في ظل الحرب المستمرة التي يشنها الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة والضفة الغربية منذ أكتوبر 2023، تتطلع مصر بقيادة قائد الانقلاب العسكري عبد الفتاح السيسي، عبر وزارة خارجيتها، لاستضافة مؤتمر دولي لإعادة إعمار غزة.
هذا التوجه جاء في تصريحات رسمية أدلى بها وزير الخارجية المصري بدر عبد العاطي خلال مكالمة هاتفية مع نظيره الفرنسي، حيث أكد أن مصر "تتطلع لاستضافة مؤتمر دولي بعد التوصل إلى وقف إطلاق نار شامل".
وبينما تبدو هذه الخطوة إنسانية في ظاهرها، إلا أن ممارسات النظام المصري في ملفات مشابهة تثير تساؤلات حول النوايا الحقيقية، خاصة في ظل التجارب السابقة التي تم فيها تسييس ملفات إنسانية وتحويلها إلى أدوات للابتزاز الاقتصادي والسياسي.
من "مؤتمر القاهرة 2014" إلى اليوم.. أين ذهبت المليارات؟
ليست هذه المرة الأولى التي تطرح فيها مصر استضافة مؤتمر لإعادة إعمار غزة، فقد استضافت القاهرة في أكتوبر 2014 مؤتمراً دولياً بعد العدوان الإسرائيلي حينها، تعهد خلاله المانحون بتقديم أكثر من 5.4 مليار دولار، منها مليار دولار من قطر، و212 مليون دولار من الولايات المتحدة.
إلا أن تقارير متعددة، منها صادرة عن الأمم المتحدة والبنك الدولي، أكدت أن معظم هذه الأموال لم تصل، أو لم تُصرف في إعادة الإعمار فعلياً، وسط اتهامات مباشرة للنظام المصري بابتزاز الجانب الفلسطيني وفرض ضرائب ضخمة على مواد البناء الداخلة إلى غزة عبر معبر رفح.
فهل نحن أمام تكرار لنفس السيناريو ولكن بوجوه أكثر دبلوماسية؟
معبر رفح والابتزاز الإنساني.. تجارة الحرب باسم الإغاثة
يعد معبر رفح البري المنفذ البري الوحيد غير الخاضع للاحتلال الإسرائيلي الذي يربط قطاع غزة بالعالم الخارجي، لكن على مدار سنوات، استغله نظام السيسي أداة للابتزاز السياسي، حيث جرى إغلاقه مراراً لأسباب غير إنسانية، وتم استخدامه كورقة ضغط على حركة حماس وسكان غزة على حد سواء.
وبعد العدوان الأخير، أفادت منظمات حقوقية أن السلطات المصرية فرضت "إتاوات" وصلت إلى 10 آلاف دولار على بعض شاحنات المساعدات، وأخرى تجاوزت 3 آلاف دولار على الأفراد الراغبين في مغادرة القطاع عبر المعبر.
فهل تسعى القاهرة من خلال مؤتمر إعادة الإعمار إلى توسيع رقعة هذا الاستثمار في معاناة الشعب الفلسطيني؟
الخطاب السياسي المصري.. ازدواجية في المواقف تجاه الاحتلال
في الوقت الذي يتحدث فيه وزير خارجية الانقلاب عن "ضرورة وقف العدوان الإسرائيلي" على القطاع والضفة الغربية، تستمر العلاقات بين القاهرة وتل أبيب في التحسن على مختلف المستويات، الاقتصادية والأمنية.
فقد شهد العام 2022، على سبيل المثال، ارتفاعاً في حجم التبادل التجاري بين الجانبين ليصل إلى نحو 330 مليون دولار، بزيادة تتجاوز 40% عن العام السابق.
كما كشف مسؤولون إسرائيليون أن مصر تلعب دوراً محورياً في التنسيق الأمني جنوب غزة.
هذه الازدواجية في الخطاب الرسمي تثير شكوكا كبيرة حول جدية مصر السيسي في دعم القضية الفلسطينية، وتحولها في نظر الكثيرين إلى طرف محايد لا يمانع من التعامل مع الاحتلال طالما أن هناك عوائد اقتصادية وسياسية.
غزة.. ودور مصر في الانقسام
منذ انقلاب 3 يوليو 2013، اتخذت السلطات المصرية موقفاً عدائياً صريحاً تجاه حركة حماس، وفرضت حصاراً مشدداً على غزة من الجانب المصري، وصولاً إلى تدمير الأنفاق التي كانت تمثل شريان الحياة لسكان القطاع.
وبينما تحاول القاهرة اليوم أن تظهر بمظهر "الوسيط الإنساني"، فإن تاريخها القريب في التحريض الإعلامي ضد غزة والمقاومة، والتضييق الأمني والمعيشي، يضعها في موضع المتهم.
فهل يمكن لنظام متورط في دعم الانقسام الفلسطيني والتضييق على غزة أن يكون صادقاً في دعوته لإعادة إعمارها؟
ومع تصاعد الدعوات لعقد مؤتمر دولي جديد لإعادة إعمار غزة، يبرز سؤال أساسي: هل ستكون هناك آلية شفافة تضمن وصول الأموال إلى مستحقيها دون أن تمر عبر قنوات الابتزاز والفساد؟
فهل سيقوم المجتمع الدولي بمحاسبة الحكومات التي تستغل المعاناة الفلسطينية لتحقيق مكاسب سياسية أو اقتصادية؟ تجارب الماضي القريب تشير إلى أن غياب الرقابة الدولية سمح بتحويل جهود الإغاثة إلى ما يشبه "السبوبة" لدى بعض الأنظمة، وعلى رأسها نظام السيسي، الذي يتعامل مع الأزمات باعتبارها فرصاً لتلميع صورته أو ملء خزانته.
وإذا لم تتغير قواعد اللعبة، فإن مؤتمر إعادة الإعمار المنتظر قد لا يكون سوى نسخة مكررة من مؤتمرات الوعود الكاذبة.
وفي ضوء ما سبق، تبدو تصريحات وزير الخارجية المصري حول استضافة مؤتمر إعادة إعمار غزة وكأنها محاولة جديدة من النظام المصري لاستغلال الأزمات الإقليمية لتحقيق مكاسب سياسية أو مالية، فبعد 12 عاماً من الانقلاب، شهدت مصر تراجعاً في السيادة، اقتصادياً وسياسياً، وتحولت إلى دولة بوليسية تخدم مصالح فئة ضيقة، مما يجعل من الصعب تصديق أن القاهرة تسعى فعلاً لخدمة الشعب الفلسطيني دون مآرب أخرى.