تحولت المدرسة، التي من المفترض أن تكون حاضنة تربوية آمنة للطلاب، إلى مصدر خوف لدى آلاف الأطفال، بفعل تفشي ظاهرة التنمّر داخل أسوارها. وبينما كان التنمّر في الماضي يُختصر غالباً في خلافات محدودة بين التلاميذ، فإنه اليوم اتخذ شكلاً مؤسسياً أكثر خطورة، حيث باتت الممارسات المؤذية تصدر أحياناً عن المعلمين أنفسهم، في ظل غياب أنظمة محاسبة رادعة وصمت إداري مريب.

وكانت الطفلة ميار (13 سنة) تنظر إلى مرآتها والدموع تنهمر على وجنتيها. السبب؟ تعليقات قاسية من زميلاتها في المدرسة تسخر من ملامحها، لون بشرتها، وأنفها العريض. لم تجد ميار عزاءً في مدرستها، حيث لقيت شكواها تجاهلًا من المعلمات والإدارة، كأن التنمّر أمر اعتيادي لا يستحق التوقف عنده.

لكن الأخطر أن المعلمين أنفسهم أصبحوا جزءاً من المشكلة. ففي واقعة صادمة، نهر معلم تلميذته ذات الأصول النوبية أمام زملائها قائلاً: "اسكتي يا سودة!"، ما يمثل اعتداءً لفظياً عنصرياً موثّقاً يعكس حجم الانحدار في بعض المؤسسات التعليمية، حيث يُمارَس التنمّر من موقع السلطة، ويُمرّ من دون محاسبة.

القصة تتكرر مع ضحايا آخرين: تلميذة في المرحلة الإعدادية أنهت حياتها بعد سلسلة طويلة من السخرية اليومية، بينما انسحبت الطالبة منار من المدرسة كلياً بعدما تعرّضت للتنمّر العنصري بسبب لون بشرتها. أما محمد، الطالب في المرحلة الثانوية، فقد عانى من التلعثم، ليكون عرضة يومية للسخرية من زملائه وبعض المعلمين، ما أدّى إلى إصابته بالاكتئاب والعزلة ورفضه لمواصلة الدراسة.

 

برلمان يتحرك... لكن الآليات غائبة

دفعت هذه الوقائع وغيرها النائبة ريهام عفيفي، عضوة مجلس الشيوخ إلى التقدم بطلب رسمي لمناقشة الجهود الحكومية لمكافحة التنمّر في المدارس. وأكدت في طلبها أن الظاهرة تجاوزت كونها حوادث فردية لتصبح تهديدًا بنيويًا للعملية التعليمية، يستوجب التدخل العاجل.

عفيفي شددت على أن التنمّر والتحرّش طاولا المدارس الحكومية والخاصة على حد سواء، ما يشير إلى خطورة الظاهرة وامتدادها عبر الطبقات الاجتماعية والتعليمية، مؤكدة الحاجة لبيئة مدرسية "صحية" قادرة على تأهيل طلاب صالحين للمجتمع، وليس مجرد ناجحين أكاديمياً.

 

إحصائيات مرعبة... وواقع يتجاهله المسؤولون

تُظهر تقارير منظمة يونيسف أن حوالي 70% من الأطفال المصريين يتعرضون لشكل من أشكال التنمّر المدرسي، سواء اللفظي أو الجسدي أو النفسي، وهو رقم يكفي وحده لإعلان حالة طوارئ تعليمية.

ويتفق الخبراء على أن الذكور في المدارس الحكومية هم الأكثر ممارسةً وتنمّراً، في ظل ضعف الرقابة المدرسية، وغياب العقوبات الواضحة. ويؤكد المختصون أن التنمّر لا يؤثر فقط على نفسية الضحايا، بل يؤدي إلى تدهور التحصيل العلمي، وخلق جيل مهزوز فاقد للثقة في ذاته.

 

شهادات علمية: التنمّر ظاهرة مجتمعية لا مدرسية فقط

البروفيسور عبد الناصر عمر، أستاذ الطب النفسي في جامعة عين شمس، يرى أن التنمّر في مصر ليس سلوكًا مدرسياً فقط، بل هو انعكاس لأزمة قيم مجتمعية واسعة. ويوضح: "في الغرب، يحدث التنمّر في المدارس فقط، أما في مصر فهو ممتد في كل المساحات، ويستهدف كل من هو مختلف".

ويضيف: "عندما يتنمّر الأهل أنفسهم على أبنائهم، أو عندما يستهين المعلمون بمشاعر الطلاب، فإن ذلك يخلق حلقة عنف مستمرة، ويضاعف من الأثر النفسي على الضحية، وقد يقود إلى أمراض عقلية مثل الاكتئاب والانتحار والعزلة".

من جهتها، تؤكد د. هالة منصور، أستاذة علم الاجتماع بجامعة بنها، أن غياب التربية السليمة وفقدان القيم الأخلاقية في المنزل هما المصدر الأساسي لسلوك المتنمّرين، وأن كثيرًا من الأهالي يسيئون لأبنائهم ظنًا أنهم بذلك يحفزونهم، في حين أنهم يدمرون ثقتهم بأنفسهم.

وتضيف: "وسائل الإعلام مطالبة بلعب دور محوري في التوعية، فهناك أطفال أنهوا حياتهم بسبب جملة أو سخرية واحدة فقط".

 

وزارة التعليم تعترف... والمشكلة تتفاقم

في جلسة رسمية بمجلس الشيوخ، اعترف نائب وزير التعليم، أيمن بهاء الدين، بأن ظاهرة التنمّر أصبحت مقلقة فعلاً، وأن الفئة العمرية الأكثر تأثراً هي ما بين 10 إلى 12 عاماً، وهي فترة التكوين النفسي والاجتماعي للأطفال.

وأشار إلى عوامل عدة تُفاقم الوضع، منها التفكك الأسري، والعنف في المنازل، وسوء الإدارة داخل بعض المدارس، وضعف عدد المعلمين والمشرفين، وغياب سياسة واضحة لمكافحة التنمّر.

 

تشريعات قوية... وتطبيق ضعيف

في محاولة لمعالجة الظاهرة، صدّق عبد الفتاح السيسي، في ديسمبر 2023، على تعديلات في قانون العقوبات لتشديد العقوبة على المتحرشين والمعتدين لفظياً، لتشمل الحبس من عامين إلى أربع سنوات، وتُغلظ إلى سبع سنوات في حال صدرت من ذوي سلطة تعليمية أو أسرية.

ورغم ذلك، يرى مختصون أن هذه القوانين تبقى حبراً على ورق داخل المدارس، إذ لا توجد آلية واضحة للتبليغ، وغالباً ما تسود ثقافة "التستر" على الجناة بدلاً من محاسبتهم، لا سيما إذا كانوا من أعضاء الهيئة التعليمية.