رغم ما يصرّح به مسؤولو حكومة الانقلاب في مصر عن كون دير سانت كاترين رمزاً للتسامح الديني والتراث العالمي، فإن السياسات الأخيرة لنظام الانقلاب برئاسة عبد الفتاح السيسي تجاه هذا الموقع الديني والروحي العريق أثارت موجة من القلق الإقليمي والدولي، وفتحت الباب لتساؤلات مشروعة حول نوايا النظام الحقيقيّة، خصوصاً في ظل تزايد الشكاوى من التضييق على المسيحيين المهجّرين، ومحاولات عسكرة وإعادة تشكيل الطابع الروحي والتاريخي للمنطقة.
 

دير فريد على قائمة التراث العالمي
   
دير سانت كاترين، الواقع عند سفح جبل موسى في جنوب سيناء، يُعد من أقدم الأديرة المسيحية العاملة في العالم، وقد أدرجته اليونسكو على قائمة التراث العالمي منذ عام 2002.

يحتوي الدير على مكتبة تضم ثاني أكبر مجموعة من المخطوطات المسيحية القديمة بعد الفاتيكان، كما يُعد مكانًا مقدسًا للمسيحيين والمسلمين واليهود على حد سواء.
 

أرقام ومعلومات مهمة

  • دير سانت كاترين بُني في الفترة بين 548-565 ميلادية بأمر من الإمبراطور البيزنطي جستنيان الأول، ويعتبر من أقدم الأديرة في العالم.
  • حكم محكمة استئناف الإسماعيلية صدر في 28 مايو 2025، يقضي بنقل ملكية الدير للدولة مع السماح للرهبان بالانتفاع فقط.
  • الدير يقع على مساحة تضم 71 قطعة أرض تضم الكنائس والمباني والأراضي الزراعية التابعة له.
  • الأزمة أثارت قلق اليونان التي ترى في الدير موقعاً دينياً وثقافياً مهماً، ووصفت القرار المصري بأنه محاولة لمحو وجود الدير.

لكن رغم هذا الإرث، تشير تقارير دولية وأكاديمية إلى تدهور أوضاع الدير وسكانه من الرهبان، وسط تدخلات حكومية متزايدة في شؤونه، وتضييقات أمنية تعرقل زيارته من الحجاج والباحثين، بل وتثير مخاوف بشأن تحويله إلى مزار سياحي خاضع لهيمنة أمنية وتجارية.
 

تصريحات رسمية "براقة"
   
في تصريحات أدلى بها وزير الخارجية المصري بدر عبد العاطي، قال إن "دير سانت كاترين يمثل رمزًا للتعايش الديني في مصر"، مؤكدًا أن بلاده ملتزمة بحماية الأماكن المقدسة والتراث الثقافي.

وفي السياق نفسه، أضاف وزير السياحة أحمد عيسى أن مشروع "تجلي الأعظم" في سانت كاترين يهدف إلى "تنمية المنطقة وجعلها مركزًا للسياحة الروحية عالميًا".

لكن هذه التصريحات لم تكن كافية لطمأنة الكنائس القبطية في المهجر ولا المؤسسات الدولية المعنية بالتراث الديني، خاصة في ظل ما وصفه مطران الكنيسة القبطية في لندن، الأنبا أنجيلوس، بـ"التدخل الممنهج في استقلالية الأديرة ومحاولة تسييسها وتحويلها إلى أدوات دعائية للنظام الحاكم".
 

"تجلي الأعظم" أم عسكرة التراث؟
   أحد أبرز جوانب الأزمة يتمثل في المشروع الذي تروج له الحكومة تحت اسم "تجلي الأعظم"، والذي يشمل بناء فنادق ومنشآت سياحية ومرافق أمنية بجوار الدير، بينما تدّعي الحكومة أن المشروع يستهدف خدمة الحجاج والسياح.
يرى باحثون ونشطاء حقوقيون أن ما يجري هو عملية "عسكرة للتراث"، تهدف لتحويل الدير من مركز ديني مستقل إلى موقع خاضع بالكامل للرقابة الأمنية، كما حدث في مناطق أثرية أخرى مثل الأهرامات ومعبد الكرنك.

أثارت هذه القرارات قلقاً دولياً، لا سيما في اليونان التي ترى في الدير رمزاً دينياً وثقافياً هاماً، وزارة الخارجية اليونانية أكدت رفضها لأي إجراء يخرج عن التفاهم المشترك مع مصر، فيما وصف رئيس أساقفة أثينا القرار المصري بأنه "إلغاء تاريخي" للدير ومحاولة لمحو دوره العبادي والثقافي.

هذا الموقف يعكس توتراً دبلوماسياً بين القاهرة وأثينا، خاصة بعد تعهدات سابقة لقائد الانقلاب بالحفاظ على الدير خلال زيارته الأخيرة لليونان

تقرير صادر عن "مرصد التراث العالمي" في برلين اعتبر أن المشروع يهدد البيئة الروحية والبيئية للدير، وأوصى بوقف أعمال الإنشاء مؤقتاً لحين مراجعة المخاطر، مشيرًا إلى أن موقع الدير جزء من "نظام إيكولوجي هش"، وأن إقامة بنية تحتية سياحية كثيفة قد تؤدي إلى "تدمير تدريجي للمكان".
 

استياء أقباط المهجر
   
من ناحية أخرى، أبدت منظمات قبطية في المهجر، مثل "اتحاد الأقباط الأمريكيين"، استياءها من نهج الحكومة المصرية في التعامل مع التراث القبطي، ففي بيان نشر في مايو 2025، اعتبر الاتحاد أن حكومة السيسي "تستخدم الأديرة التاريخية لتجميل صورتها أمام الغرب، بينما تمارس القمع الداخلي ضد المسيحيين وتُقصيهم من صنع القرار".

وأشار البيان إلى أن عدد الأقباط الذين غادروا مصر خلال العقد الأخير تجاوز 500 ألف، نتيجة "تضييق الحريات الدينية وتهميش الأقباط في الوظائف العامة"، محذرًا من أن "تحويل الأماكن المقدسة إلى مراكز تجارية خاضعة للمخابرات يُفقدها معناها الروحي".
 

آراء أكاديمية ومعارضة
   
الأكاديمي المصري المقيم في ألمانيا، الدكتور هاني نجيب، يرى أن "أزمة دير سانت كاترين تكشف الخلل العميق في علاقة الدولة بالتراث الديني، فالدير كان طوال تاريخه مستقلاً عن السلطة، لكن ما يحدث اليوم هو عملية تدجين لمؤسسات روحية لصالح بروباغندا سياسية".

وتؤكد الباحثة ماريان عادل، في دراسة نشرت في "مجلة سياسات الشرق الأوسط"، أن الحكومة المصرية تستخدم خطاب "الحوار الديني" لتبييض سجلها الحقوقي أمام الدول الغربية، في حين أن الواقع يُظهر غياب الحوار حتى داخل المجتمع المصري، بدليل "عدم إشراك ممثلي الكنيسة في مشاريع تطوير الدير، وغياب الشفافية في التعاقدات المالية المرتبطة بالمشروع".

دير سانت كاترين اليوم لم يعد فقط مركزًا دينيًا، بل بات نقطة تقاطع بين مصالح أمنية وسياسية واقتصادية تهدد بتشويه معناه التاريخي والروحي، بينما تتحدث الحكومة عن تطوير السياحة الروحية، فإن ما يجري هو "تهميش ممنهج للهوية الدينية، واستغلال مفضوح للتراث القبطي لخدمة سردية النظام".

في ظل هذا الواقع، تتصاعد الدعوات لوقف التدخلات في الدير وإشراك المجتمع الديني والعلمي في أي خطط تطوير مستقبلية، قبل أن يتحول أحد أقدس المواقع الدينية في العالم إلى مجرد فندق ملوّن محاط بالحواجز والأسلاك الشائكة.