قفزت أسعار الأسمدة الحرة في مصر بشكل كبير خلال الأيام الأخيرة، حيث ارتفع سعر شكارة سماد اليوريا (50 كغ) من حوالي 1200 جنيه إلى ما بين 1600 و1700 جنيه، كما صعد سعر شكارة سماد النترات إلى ما بين 1100 و1200 جنيه، وذلك بسبب أزمة حادة في إمدادات الغاز الطبيعي المسال التي أدت إلى توقف عدد كبير من مصانع الأسمدة عن العمل بشكل شبه كامل
وفي ظل صيف ساخن يتزامن مع تقنين إمدادات الغاز الطبيعي، شهدت أسعار الأسمدة الحرة في مصر قفزة جنونية تجاوزت 85% خلال أسبوعين، لتسجل مستويات غير مسبوقة، وسط عجز حكومي واضح في إدارة الأزمة.
ويأتي هذا الانفجار السعري بعد توقف شبه كامل لمصانع الأسمدة بسبب انقطاع إمدادات الغاز، ما أعاد طرح تساؤلات قديمة جديدة حول أولويات حكومة السيسي، ومصير دعم الفلاح، ومستقبل الزراعة الوطنية.
توقف المصانع
منذ منتصف يونيو 2025، بدأت المصانع الكبرى لإنتاج الأسمدة (مثل أبو قير والدلتا والمصرية للأسمدة) في تقليص أو وقف الإنتاج، نتيجة تقليص حاد في كميات الغاز الطبيعي التي توردها الحكومة.
ووفق تصريحات صحفية لمسؤولي الصناعة، فإن نسبة تخفيض الإمدادات وصلت إلى 100% في بعض المصانع، ما اضطرهم لإغلاق خطوط الإنتاج أو إجراء صيانة إجبارية.
السبب الرئيسي، وفق بيان وزارة البترول، هو تراجع واردات الغاز من إسرائيل، والتي تمثل ما بين 40–60% من إمدادات مصر منذ عام 2023، بعد تراجع الإنتاج المحلي. وقد أدى التصعيد الإقليمي في غزة ولبنان إلى توقف حقول "ليفياثان" و"كاريش" الإسرائيلية، ما دفع القاهرة لتوجيه الغاز المتاح لمحطات الكهرباء فقط.
انفجار في الأسعار.. من الفلاح إلى المستهلك
مع توقف المصانع، ارتفعت أسعار اليوريا في السوق الحرة من نحو 8,000 جنيه إلى أكثر من 14,000 جنيه للطن، بنسبة زيادة تقترب من 85%، ووصل سعر شيكارة النترات إلى 600 جنيه في بعض المحافظات، في حين كانت تُباع قبل الأزمة بنحو 330 جنيهًا.
الباحث الزراعي د. أحمد عبد الله، قال في تصريحات خاصة: "هذه ليست أزمة عرض وطلب فقط، بل تعبير عن خلل هيكلي في سياسة الدولة الزراعية، التي تهتم بالتصدير وتحقيق العملة الصعبة على حساب الاكتفاء المحلي، الدعم يذهب للكبار، بينما يُترك الفلاح الصغير بين نار الغلاء وسيف العقوبات."
غياب الدعم وتضييق الخناق على المزارعين
رغم الحديث الرسمي المتكرر عن دعم الفلاح، فإن الدعم الفعلي للأسمدة يُوجَّه فقط لمن يملك أقل من 25 فداناً، بسعر 4,500 جنيه للطن، أما من يملك أكثر من ذلك، وهم المنتجون الحقيقيون في الصعيد والدلتا، فيُجبرون على الشراء من السوق الحرة بأسعار مضاعفة.
الأخطر، بحسب الناشط الزراعي حسن النويشي، هو أن "الأسمدة المدعمة غالباً لا تصل للفلاح أساساً، ويتم تهريبها عبر سماسرة وتجار سوق سوداء مرتبطة بشبكات فساد داخل الجمعيات الزراعية، وهو أمر اعترفت به تقارير رسمية للرقابة الإدارية في 2023."
الصادرات أولاً.. الزراعة أخيراً
تنتج مصر سنوياً نحو 22 مليون طن من الأسمدة النيتروجينية، وتصدر منها أكثر من 50%.
ومع ارتفاع أسعار اليوريا في السوق العالمية من 380 إلى 450 دولارًا للطن خلال الأزمة، فضّلت المصانع التصدير لتحقيق أرباح دولارية، بينما تُرك السوق المحلي يعاني نقصًا حادًا.
ورغم الأزمة، لم تصدر الحكومة أي قرار بإيقاف تصدير الأسمدة مؤقتًا أو تحديد حصص للسوق المحلي.
ويرى أستاذ الاقتصاد الزراعي د. محمد عوض، أن "الدولة تدير ملف الزراعة بعقلية الجباية لا الإنتاج، فهي تفضل تصدير الأسمدة لتوفير الدولار على حساب قوت الفلاح."
تداعيات خطيرة على الزراعة والغذاء
وفق تقرير صادر عن مركز البحوث الزراعية، فإن أكثر من 2.3 مليون فدان معرضة لانخفاض الإنتاجية هذا الموسم، بسبب نقص الأسمدة.
ويتوقع الخبراء انخفاض إنتاج القمح والذرة بنسبة 15–20% في الوجه القبلي، ما يعني زيادة متوقعة في استيراد الحبوب خلال الشهور المقبلة، وارتفاع أسعار الغذاء في الأسواق.
من جانبه، حذر الباحث في الملف الزراعي محمد مجدي من أن "الاستمرار في سياسات الإهمال سيؤدي إلى كارثة أمن غذائي خلال عامين.. مصر لم تعد تمتلك احتياطيات كافية من الأسمدة، ولا خطط واضحة للاكتفاء الذاتي في ظل الانهيار الإداري الحالي."
هل من حلول؟ أم استمرار للنهج القمعي الاقتصادي؟
الحلول المقترحة من الأكاديميين تشمل:
- وقف تصدير الأسمدة مؤقتاً.
- إعطاء الأولوية للإنتاج المحلي.
- توجيه الدعم مباشرة للفلاح عبر كوبونات رقمية شفافة.
- إعادة تشغيل المصانع بكامل طاقتها بإمدادات غاز مستقرة.
- تنويع مصادر الغاز وعدم الاعتماد المفرط على الاحتلال الإسرائيلي.
لكن حكومة السيسي لا تملك الإرادة السياسية لتنفيذ ذلك، فهي تسير وفق سياسات صندوق النقد، وتدير الزراعة كعبء لا كمصدر سيادة وطنية.
فما يحدث في ملف الأسمدة ليس إلا تجليًا لأزمة أعمق تعاني منها مصر، غياب السيادة على الموارد، وتغليب مصلحة الصادرات والأمن السياسي للنظام على احتياجات المواطنين، وبينما يدفع الفلاح الثمن اليوم، سيدفع المصريون جميعًا ثمنه غدًا على موائد طعامهم.