في خضم التصعيد العسكري غير المسبوق بين إسرائيل وإيران، بدأ اقتصاد حكومة الانقلاب يشعر بالارتدادات المباشرة، خصوصًا على مستوى سوق الصرف. فقد تسبب التوتر الإقليمي المتصاعد في ارتفاع ملحوظ لسعر صرف الدولار مقابل الجنيه المصري في السوق الموازية، متجاوزًا حاجز 50.70 جنيهًا، وسط قلق من شح العملة الصعبة وازدياد الإقبال على الدولار باعتباره ملاذًا آمنًا.
هذا التحرك السريع في أسعار الصرف يعكس هشاشة السوق المصرية أمام الأزمات الخارجية، ويزيد المخاوف من موجة تضخمية جديدة في ظل اقتصاد يعاني بالفعل من ضغوط متراكمة، وبدا أنه يترنح تحت وطأة تداعيات جيوسياسية مباشرة، أثارت مخاوف حقيقية من انتكاسة جديدة للجنيه المصري، وسط تزايد الحديث عن عودة السوق الموازية (السوداء) للنشاط بعد نحو عام من الجمود.
فقد سجّل سعر صرف الدولار، الجمعة، ارتفاعًا مفاجئًا في السوق الموازية ليصل إلى 50.70 جنيهًا، متجاوزًا لأول مرة السعر الرسمي الذي حدده البنك المركزي عند 50.50 جنيهًا، وذلك منذ تعويم الجنيه في نهاية الربع الأول من عام 2024. هذا التباين الطفيف يحمل دلالات خطيرة، بحسب محللين، إذ يشير إلى بدء موجة ضغط على الجنيه قد تتصاعد في حال استمرار التوتر الإقليمي.
ضغوط مزدوجة على الجنيه
يشير خبراء اقتصاديون إلى أن الجنيه المصري بدأ يفقد الدعم الذي تلقّاه سابقًا من تدفقات استثنائية، مثل صفقة "رأس الحكمة" في الربع الأول من 2024، وقروض صندوق النقد الدولي، والتي ضمنت استقرارًا مؤقتًا للعملة المحلية. الآن، ومع تجدد المخاطر الجيوسياسية، تتآكل تلك المكاسب بشكل متسارع.
من أبرز هذه الضغوط: عودة الحديث عن نقص الدولار، وانكماش موارد البلاد من النقد الأجنبي، بسبب تراجع متوقع في عائدات قناة السويس والسياحة، بالتوازي مع ارتفاع تكاليف استيراد الوقود والطاقة، في ظل ارتفاع أسعار النفط والغاز عالميًا.
ويحذر محللون من أن استمرار هذا المسار قد يفتح الباب أمام موجة جديدة من تخفيض قيمة الجنيه، ما يؤدي إلى ارتفاع الأسعار داخليًا، واتساع الفجوة التضخمية، وهو ما يهدد القوة الشرائية للمصريين، ويضغط أكثر على الطبقات الفقيرة والمتوسطة.
استثمارات في مهبّ الريح
في سياق موازٍ، تخيّم على الأسواق المصرية مخاوف من انسحاب جديد للاستثمارات الأجنبية غير المباشرة، أو ما يُعرف بـ"الأموال الساخنة"، من أدوات الدين المحلي، وسط تصاعد عدم اليقين السياسي والأمني في المنطقة. ويستحضر المراقبون أزمة عام 2022، حين فرّت نحو 20 مليار دولار من تلك الاستثمارات، ما ترك أثرًا كارثيًا على الجنيه والسيولة الدولارية في السوق.
وقد شهدت الأيام الماضية بالفعل بوادر سحب جزئي من أذون وسندات الخزانة المصرية، ما أدى إلى ارتفاع فوري للدولار بنحو 41 قرشًا في السوق الرسمية خلال تعاملات الخميس، وفقًا لما ذكره الخبير الاقتصادي، أحمد البهائي.
البنك المركزي المصري بدوره، أشار في تقرير صدر في 10 يونيو، إلى تراجع صافي الأصول الأجنبية في القطاع المصرفي إلى 13.5 مليار دولار في أبريل، مقارنة بـ15.04 مليار في مارس، بينما ارتفعت الالتزامات الأجنبية إلى 29.7 مليار دولار، ما يعكس عودة الضغط على الاحتياطي النقدي.
التضخم والأسعار: الحلقة الأضعف
الانعكاسات على الشارع المصري بدأت ملامحها في الظهور، وسط توقعات بموجة تضخمية جديدة، بفعل ارتفاع أسعار الوقود عالميًا، وتزايد تكاليف الشحن والتأمين، ما يرفع من كلفة الواردات وبالتالي أسعار السلع الغذائية والمنتجات الاستهلاكية.
وتؤكد البيانات الرسمية أن معدل التضخم في الحضر بلغ 16.8% في مايو الماضي، لكن من المرجح أن يرتفع بشكل أكبر إذا استمر تراجع الجنيه، أو اتخذت الحكومة إجراءات تقشفية إضافية لسد العجز المتوقع في الموازنة الجديدة (2025-2026) التي يبدأ تطبيقها في يوليو المقبل.
ويحذر الخبراء من أن الضغوط المالية قد تدفع الحكومة لزيادة أسعار الوقود والكهرباء والنقل، ما سيضيف عبئًا كبيرًا على المواطنين، في وقت يعاني فيه أكثر من ثلث السكان من الفقر المدقع.
حلول محتملة.. لكنها مؤجلة
وفيما تتصاعد التحذيرات من الأسوأ، يطرح خبراء مقترحات للحد من الأزمة، من أبرزها تشجيع تحويلات المصريين بالخارج التي تراجعت بنحو 26% بين يوليو 2022 ويونيو 2023، وابتكار أدوات بنكية جاذبة للعملة الصعبة.
واقترح الخبير الاقتصادي أحمد البهائي تقديم حوافز مغرية للمصريين بالخارج لتحويل العملة الأجنبية عبر القنوات الرسمية، مثل إضافة مكافآت بالجنيه المصري على التحويلات الدولارية أو ربطها بحسابات استثمارية طويلة الأجل بعائد ثابت ومضمون.
كما دعا إلى إعادة النظر في الاعتماد المفرط على الأموال الساخنة لتمويل عجز الحساب الجاري، والتركيز على زيادة الإنتاج المحلي، وتحسين الصادرات، كمصادر دائمة ومستقرة للعملات الأجنبية.
واختتم البهائي تحذيراته بالتأكيد على أن استمرار تجاهل العوامل الهيكلية التي تضعف الاقتصاد المصري قد يكرر سيناريو الانهيارات السابقة للجنيه، "لكن بثمن أعلى هذه المرّة".