نشرت "العربي الجديد" تقريرًا للصحفية مريم رأفت يسلّط الضوء على الأثر غير المرئي للتضخم على حياة العائلات المصرية، من خلال قصص شخصية تعكس معاناة اقتصادية يومية تتجاوز الأرقام والمؤشرات الرسمية.

تستيقظ زينب محمد، 50 عامًا، كل صباح في منزلها بالجيزة قبل شروق الشمس لتبدأ الطهو. تُعد أطباقًا من الأرز والخضروات وطاجن الدجاج، وتضعها في علب بلاستيكية تبيعها لطلبة الجامعة والعزّاب وبعض الجيران المسنين. تسعّر وجباتها بحيث تكون أقل من الوجبات السريعة، لكنها تحتفظ بنكهة الطعام المنزلي. تقول زينب: "ما توقعت أطعم نص الحي علشان أولادي يكملوا تعليمهم. بعد مرض جوزي، المطبخ بقى مصدر رزقنا".

يشهد المصريون تغيرات قاسية في نمط حياتهم اليومية: استبدال الدجاج بالعدس، المشي بدل المواصلات، وسحب الأبناء من الدروس الخصوصية. رغم تراجع الأرقام الرسمية للتضخم في مطلع 2024، لم يتراجع العبء النفسي، وفق ما يوثقه التقرير.

بلغت نسبة التضخم في مصر 30% خلال عام 2023، مما رفع أسعار المواد الغذائية الأساسية كالخبز والسكر والزيت، وجعلها خارج متناول كثيرين. تزامن ذلك مع انهيار حاد في قيمة الجنيه، الذي فقد أكثر من نصف قيمته منذ 2021، ما أضعف القوة الشرائية وزاد أسعار الوقود والدواء المستورد.

تقول مريم عادل، خريجة صحافة في الرابعة والعشرين، إنها اضطرت للعمل في مركز اتصال، ثم تقضي ليلها في تفريغ مقاطع فيديو لصالح يوتيوبرز خارج مصر. تضيف ضاحكة: "أحس أني بشتغل علشان أدفع مواصلات. الإيجار تضاعف، ولسّه قاعدة في بيت أهلي في شبرا. ما بخرجش، وما اشتريتش هدوم من سنة".

وفقًا للجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء، بلغ معدل البطالة 7.4% في 2023، ويواصل الارتفاع وسط ركود القطاع الخاص. الشباب خصوصًا يواجهون سوق عمل محدود، ما يدفعهم للعمل بوظائف غير رسمية أو مستقلة لضمان البقاء.

تشرح د. شيرين السيد، أستاذة الاقتصاد بالجامعة الأمريكية في القاهرة، أن الأزمة أحدثت "إعادة تشكيل صامتة للحياة الطبقية الوسطى"، إذ يؤجّل الناس الزواج، يتخلّون عن التعليم الخاص، ويعودون للعيش مع أهلهم. تضيف: "المشكلة مش بس في التضخم، بل في غياب الثقة في الاستقرار المستقبلي"، مؤكدة أن الأزمة بلا أفق واضح للنهاية.

في الإسكندرية، يدير عبد الرحمن فتحي، 61 عامًا، كشك أدوات مكتبية لم يعد يدر ربحًا يُذكر. يتذكّر أيامًا كانت منتجاته المستوردة تجذب الزبائن، أما اليوم فلا يقدر الزبائن على شراء دفاتر عادية. يقول: "ما بجيبش بضاعة جديدة، وبفتح الكشك علشان ما أزهقش. ابني بيبعتلي فلوس من الخليج، لولاها ما عشت".

اضطر عبد الرحمن لاستخدام موقد طيني وحطب بدل الغاز الذي تضاعف سعره، لكنه يرفض إغلاق الكشك: "طالما أقدر أفتح بابي، هفتح. الشغل كرامة، ودي الحاجة الوحيدة اللي فاضلة لي".

ترى د. شيرين أن هذه المرونة تمثّل استجابة نفسية موازية للاستجابة الاقتصادية. تقول: "الناس بيتعلموا يعيشوا بأقل، لكن الثمن النفسي ما بيتناقش كفاية. الكرامة الشخصية ما زالت جوهر طريقة المصريين في التكيّف".

مع استمرار التضخم، تتجه فئات المجتمع إلى نماذج عمل جديدة، يضطر فيها الشباب للتخلي عن أحلامهم المهنية، بينما يتمسّك كبار السن بروتينهم اليومي كوسيلة للبقاء. وتظهر قصص مثل زينب ومريم وعبد الرحمن أن النجاة في مصر اليوم لا تعني فقط الطعام أو الإيجار، بل الحفاظ على الكرامة في ظل أزمة تبدو بلا نهاية.

https://www.newarab.com/features/inside-invisible-toll-inflation-egyptian-families