في الوقت الذي تُقدَّم فيه دبي للعالم كرمز للحداثة والرفاهية والتقدم المعماري، كشفت الصحفية الفرنسية إميلي بيداليه الوجه المظلم لهذه المدينة المتلألئة، عبر تحقيق استقصائي بعنوان "La ville s’est construite comme une bulle de plaisir" (بُنيت المدينة كفقاعة متعة)، نشرته بالفرنسية، وفضحت فيه ما وصفته بـ"الواجهة المزيفة" التي تُخفي خلفها منظومة قمع واستغلال وخرق صارخ لحقوق الإنسان.

 

فقاعة البذخ… وعالم الاستعباد
ترى بيداليه أن مدينة دبي لم تُبنَ كمكان للعيش الإنساني، بل كـ"فقاعة استهلاك" موجهة لجذب المستثمرين والسياح، تُظهر وجهًا لامعًا مليئًا بالتسوق والرفاهية والفعاليات الضخمة، لكنها في جوهرها تخفي واقعًا قاتمًا من الانتهاكات والقمع والاستغلال.

تُظهر المدينة، بحسب التقرير، تناقضًا صارخًا بين الصورة التي تسوقها للعالم، وبين حقيقة الحياة اليومية فيها، حيث تُمارَس الرقابة الشاملة، وتُكبت الحريات، وتُستخدم القوانين كأدوات لإخضاع السكان، وخاصة العمال الأجانب، الذين يُشكلون العمود الفقري غير المرئي لكل ما يلمع في الإمارة.

 

“جنة” قائمة على القهر
يصف التحقيق دبي بأنها "ليست قصة نجاح بقدر ما هي قصة تجميلٍ لنظام قمعي". فالمدينة لا تُدار كمساحة منفتحة، بل كمنظومة بوليسية تفرض رقابة صارمة على كل تفصيل في حياة المقيمين. الصحافة المستقلة شبه معدومة، وحرية التعبير مقموعة، وأي انتقاد للسلطات أو انتهاكاتها يُقابل بالترحيل أو السجن.

اللافت، كما تقول بيداليه، أن دبي تحولت إلى ملاذ آمن للأثرياء من أنحاء العالم، بما في ذلك أولئك المتورطين في قضايا فساد أو ملاحقين قضائيًا، بفضل غياب الشفافية وتواطؤ المنظومة المالية في التغطية على تدفقات أموال مشبوهة تُمرر تحت ستار الاستثمارات والمشاريع العقارية.

 

نظام عبودية مقنن
أما عن وضع العمالة الأجنبية، فالصورة أكثر قتامة. فالغالبية الساحقة من العمال يأتون من دول جنوب آسيا وإفريقيا بحثًا عن فرصة حياة، ليجدوا أنفسهم أسرى نظام الكفالة الذي يُحوّل العامل إلى "رهينة" لدى صاحب العمل. يُصادر جواز السفر، وتُفرض عليه ظروف معيشية قاسية، ويُمنع من تغيير وظيفته أو السفر دون إذن مسبق.

تقول بيداليه إن هؤلاء العمال يعيشون في مساكن جماعية مكتظة خارج المدينة، ويعملون لساعات طويلة في درجات حرارة تتجاوز قدرة التحمل، وغالبًا ما يُحرمون من الحد الأدنى من الحقوق. أي احتجاج، حتى لو كان سلميًا، يُقابل بالترحيل أو السجن، وتبقى القصص مخنوقة خلف جدران الصمت والتجاهل الدولي.

 

القمع “الناعم” بأدوات رقمية
في جانب آخر، يشير التقرير إلى تطور أدوات الرقابة لتشمل كل جوانب الحياة الرقمية. فالمقيمون في دبي يعلمون أن تعليقاتهم على وسائل التواصل الاجتماعي، أو حتى الصور والمنشورات الشخصية، قد تُستخدم ضدهم قضائيًا. تُلاحق السلطات من ينتقد، وتُخضع كل من يُلمّح بالاعتراض إلى المساءلة، تحت شعارات غامضة من نوع "احترام التقاليد".

 

المال يغسل كل شيء
فيما يخص الاقتصاد، ترى بيداليه أن نموذج دبي يقوم على البذخ والعقارات وغسيل الأموال، لا على الإنتاج أو العدالة الاجتماعية. الإمارة أصبحت منصة لتبييض الأموال، واستقطاب الأثرياء الباحثين عن نظام مالي بلا رقابة أو شفافية، وكل ذلك على حساب الكرامة الإنسانية للملايين من العمال والمقيمين العاديين.

 

وهم الواجهة
وتخلص الصحفية الفرنسية في تقريرها إلى أن "ما تفعله الإمارات في دبي ليس إلا استعراضًا سياسيًا واقتصاديًا يُراد به إقناع العالم بأن القمع يمكن تغليفه بالبذخ". المدينة التي تحظى بتمثيل واسع في المحافل الدولية، وتُستقبل كرمز للنجاح العربي، لا تسمح بمحاسبة حقيقية، ولا تفتح أبوابها للتحقيقات الصحفية أو الحقوقية الجادة.