بينما يشقّ المزارع أبو عيسى طريقه بصعوبة لتأمين مياه لري أربعة أفدنة في قلب دلتا النيل القديمة، تعلن حكومة عبدالفتاح السيسي، عن مشروع عمراني وزراعي ضخم في عمق الصحراء الغربية، باسم "جريان"، يتطلب نقل 10 ملايين متر مكعب يوميًا من مياه النيل لخلق دلتا جديدة. وبين طموحات التنمية وتحقيق "رؤية مصر 2030"، يتزايد الجدل حول أولويات الإنفاق، وعدالة توزيع الموارد، ومستقبل الأمن المائي في ظل أزمة سد النهضة.

 

قرية “ذات الكوم”.. مأساة المياه على أعتاب “الحلم الصحراوي”
على مشارف قرية "ذات الكوم" بمحافظة الجيزة، يعاني المزارع أبو عيسى من جفاف قنوات الري، رغم قربه من نهر النيل. اضطر أبو عيسى لاستخدام ماكينات لرفع المياه الجوفية لري أرضه، بينما وصلته مكالمة من إحدى شركات التطوير العقاري تعرض عليه شراء وحدة سكنية في "مشروع الدلتا الجديدة" مقابل 40 مليون جنيه، ما أثار سخريته المريرة.

أبو عيسى، الذي عمل سابقًا في وزارة الري، أشار بأسى إلى ترعة الزمر القريبة وقد امتلأت بالقمامة. ويقول: "المياه لم تعد تصل إلى هنا.. كنا أولى بضخ المياه للدلتا القديمة بدلًا من رفعها للصحراء بتكاليف ضخمة".

 

مشروع “جريان”.. حلم تنموي أم استثمار فندقي؟
المشروع الجديد، الذي يحمل اسم "جريان"، يُنفذ عبر جهاز "مستقبل مصر" بالتعاون مع ثلاث شركات تطوير عقاري كبرى، وتقول الحكومة إنه الأكبر من نوعه في تاريخ مصر، بمساحة تصل إلى 2.2 مليون فدان، تبدأ بـ1600 فدان، ويهدف لزيادة الرقعة الزراعية بنسبة 23%.

رئيس الوزراء مصطفى مدبولي نفى استغلال مياه النيل لأغراض عقارية، مؤكدًا أن المشروع لا يُهدد الأمن المائي، بينما أُعلنت تفاصيل إنشاء ممر مائي بطول 41 كيلومترًا لنقل مياه النيل من فرع رشيد إلى أراضي المشروع.

لكن المشروع، بحسب خبراء، سيحوّل جزءًا من حصة مصر من المياه – تُقدر بنحو 7% – من أراضي الدلتا القديمة نحو الصحراء لخدمة مجمعات سكنية فاخرة، بعضها بأسعار تتجاوز 175 مليون جنيه للوحدة الواحدة.

 

بين الزراعة الفقيرة والقصور الفارهة.. انقسام في الرؤية
يرى المتحدث باسم وزارة الزراعة محمد القرش أن المشروع يهدف لفك الزحام عن الدلتا القديمة، والخروج من "الوادي الضيق"، فيما يؤكد المهندس مجدي تبارك أن المشروع سيوفر فرص عمل، ويعتمد على حلول تقنية لمنع تسرب المياه أو تبخرها، ويهدف إلى خلق مجتمع زراعي وعمراني جديد.

لكن الخبير الاقتصادي مصطفى عبد السلام يرى أن المشروع يكرّس لسياسات "النيل بخدمة الأثرياء وساكني القصور". ويؤكد أن "المشروعات الفارهة المعتمدة على مياه النيل ستبدد الموارد وتعمّق الفقر"، خاصة في ظل عجز مائي يقترب من 20 مليار متر مكعب سنويًا.

بدوره، انتقد الاقتصادي هاني توفيق عبر صفحته على فيسبوك المشروع، واصفًا إياه بأنه "سفه استفزازي عقاري"، معتبرًا أنه يستهلك موارد الدولة المحدودة في غير محلها، في وقت تحتاج فيه البلاد لمشروعات إنتاجية وتوسعات صناعية لمواجهة أزمة الديون.

 

هل تهدد “جريان” مستقبل حصة مصر المائية؟
تثير التحذيرات المتكررة من سد النهضة الإثيوبي قلقًا متزايدًا، خاصة أن مصر تعتمد بنسبة 97% على مياه النيل، بينما يبلغ نصيب الفرد من المياه 560 مترًا مكعبًا فقط سنويًا، أي أقل بكثير من حد الفقر المائي العالمي البالغ 1000 متر مكعب.

وزارة الري تشير إلى أن احتياجات البلاد تصل إلى 114 مليار متر مكعب، بينما لا تتجاوز الموارد الفعلية 60 مليار متر، ويجري سد العجز عبر إعادة استخدام المياه واستيراد محاصيل زراعية تعادل 34 مليار متر مكعب من المياه.