لم يكن محمد ربيع، المدير المالي بوزارة السياحة، يتصور أن زجاجة حليب على رف أحد المتاجر الكبرى يمكن أن تفتح بابًا للقلق الأسري في منزله، وزوجته، سالي حسين، طبيبة الأسنان، التي عاشت لفترة في أوروبا، تقول إنها لم تتوقع أن تضطر للتدقيق في ملصقات المنتجات داخل مصر، "كنت أفعل ذلك في الخارج فقط، أما هنا فاعتقدنا أن كل شيء خاضع للرقابة الشرعية".

لكن هذا الاعتقاد بدأ يتزعزع مؤخرًا، بعد إعلان الحكومة إلغاء العمل بشهادة "المنشأ الحلال" للمنتجات المستوردة من الألبان الأمريكية، ما فجّر جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية والاقتصادية والاجتماعية.

 

الحكومة: "القرار لتقليل التكاليف"

المتحدث باسم مجلس الوزراء، محمد الحمصاني، دافع عن القرار بقوله إن "منتجات الألبان لا تحتاج لشهادات حلال من الأساس، لأنها بطبيعتها لا تتضمن مكونات محرّمة، وكان طلب الشهادة في السابق إجراءً روتينيًا فقط".

وأكد الحمصاني استمرار الالتزام بالشهادات الحلال في ما يتعلق باللحوم، موضحًا أن القرار يهدف إلى "خفض الأسعار وتقليل التكلفة".

من جانبه، حاول رئيس الوزراء مصطفى مدبولي طمأنة الرأي العام، بالتأكيد على أن "كل المنتجات التي تدخل السوق المصري تخضع لرقابة صارمة ولا يُسمح بدخول أي منتج محرّم شرعًا".

 

قلق في الشارع المصري

إلا أن هذه التطمينات لم تقنع كثيرين. يقول عبد التواب بركات، أستاذ الاقتصاد الزراعي بمعهد الإنتاج الحيواني، إن 90% من مكونات صناعة الجبن المصرية مستوردة، بما في ذلك بروتينات الشرش والزبدة والمنفحة الحيوانية، التي قد تكون مشتقة من مصادر غير حلال.

ويحذر بركات من أن هذا القرار سيؤثر سلبًا على ثقة المستهلك المصري، والمستهلك العربي عمومًا – خصوصًا نحو مليوني سائح عربي يزورون البلاد سنويًا – إضافة إلى التأثير على صادرات الصناعات الغذائية المصرية التي تحتوي على مكونات ألبان.

 

بين تشجيع الإنتاج المحلي وضغوط الاستيراد

على الطرف الآخر، يرى جمال بيومي، مساعد وزير الخارجية الأسبق، أن القرار يمثل "فرصة لتقليل البيروقراطية"، ويقول: "الإعفاء من رسوم شهادة الحلال، التي تصل إلى 1500 دولار لكل حاوية، سيساعد على تخفيض أسعار السلع وتنشيط حركة السوق".

لكن كامل عبد الله، صاحب أحد مصانع الألبان، يرى العكس. "نحن لا نحتاج إلى زيادة الاستيراد بل إلى دعم الإنتاج المحلي"، مؤكدًا أن ارتفاع أسعار الأعلاف – خاصة الذرة – يفاقم أزمات القطاع.

ويضيف أن تشجيع المزارعين وتوفير الأعلاف محليًا هو السبيل الحقيقي لتحقيق الاكتفاء الذاتي من الألبان ومشتقاتها.

 

السوق تحت المجهر

في خلفية هذا الجدل، كشف وزير الصناعة والنقل، كامل الوزير، أن البلاد تستورد أجبانًا بقيمة 130 مليون دولار سنويًا، رغم أن مصر تنتج حوالي 7.5 ملايين طن من الألبان، مع وجود فجوة استهلاكية بنحو 3 ملايين طن.

كما أن السوق العالمية للأغذية الحلال باتت محط أنظار كبرى الشركات، إذ تشير تقارير إلى أن حجمها سيصل إلى نحو 6 تريليونات دولار بحلول عام 2033، ما يجعل التنافس فيها شديدًا، ويزيد من خطورة أي قرار قد يُضعف ثقة المستهلك بالمنتجات.

 

ثغرات في الرقابة؟

يحذر مهندس الجودة عبد الله السيوفي من أن المنتجات التي تحتوي على مكونات غير حلال قد تجد طريقها إلى الأسواق إذا لم تكن هناك رقابة صارمة. "القانون يفرض وضع المكونات على العبوة، لكن من يقرأ؟ ومن يتحقق؟".

وأشار السيوفي إلى أن مكونات مثل الأحماض الدهنية أو المنفحة الحيوانية قد تُستخرج من مصادر محرمة شرعًا مثل الخنزير، موضحًا أن التدقيق يجب أن يشمل سلسلة التوريد الكاملة وليس فقط المنتج النهائي.

 

هل تضع مصر ثقتها في سوق محفوفة بالمخاطر؟

بحسب بيانات أمريكية، تسجل الولايات المتحدة فائضًا غير مسبوقًا في إنتاج الدهون الزبدية بلغ 82 مليون رطل، ما يدفعها بقوة للبحث عن أسواق خارجية، أبرزها الأسواق النامية ومنها مصر.

لكن هذا الطوفان من الاستيراد، دون قيود أو شهادات صارمة، قد يفتح الباب أمام تسلل منتجات غير مطابقة لمعايير الحلال، وهو ما ينذر بأزمة ثقة كبيرة، لا سيما في سوق يُقدّر حجمه المحلي بعشرات المليارات من الجنيهات.

 

ما هي شهادة "المنشأ الحلال"؟

شهادة "المنشأ الحلال" هي وثيقة معتمدة تؤكد أن المنتج الغذائي – أو أحد مكوناته – يتوافق مع أحكام الشريعة الإسلامية، خاصة فيما يخص المواد الخام وطرق التصنيع، وهي شرط أساسي في الأسواق الإسلامية لتأكيد خلو المنتجات من مشتقات محرمة مثل إنزيمات الخنزير أو الكحول.