حين بدأت موجة التوسع في إنشاء المجمعات السكنية "الكومباوندات" مطلع الألفية الثالثة، بدت تلك المشروعات وكأنها الحلم المثالي لعائلات الطبقة المتوسطة والعليا: حياة آمنة، هدوء بعيد عن صخب المدن، وخدمات متكاملة داخل أسوار محمية. لكنّ هذا الحلم سرعان ما انقلب إلى كابوس، بعد أن تحوّلت هذه "الجزر المعزولة" إلى كيانات مغلقة تفرض قوانينها الخاصة، وتدار خارج سلطة الدولة، حيث تغيب الرقابة والمحاسبة، وتتراكم انتهاكات حقوق المالكين، من دون أفق للحلول. وعود فاخرة تنتهي بخيبات مريرة المشهد العام في "الكومباوندات" اليوم يعكس واقعاً مغايراً تماماً لما تم الترويج له. فقد أصبح كثير من السكان أسرى لسلطات مطورين عقاريين يحتكرون كل شيء: من مواعيد التسليم إلى رسوم الخدمات، وحتى قرارات الصيانة، من دون التزام بالقوانين المنظمة أو إنفاذ للعدالة. في مشروع "جنوب" التابع لشركة "الشرقيون للتنمية العمرانية"، ينتظر السكان وحداتهم منذ خمس سنوات بلا أي تعويض. وفي اجتماعات مغلقة وموثقة، تم عزل المتضررين عن بعضهم، لمنع تشكيل ضغط جماعي على الشركة. أما في مشروع "سيدي حنيش" بالساحل الشمالي، فتغيّرت مواصفات الوحدات فجأة بعد دخول "بالم هيلز" كشريك جديد، دون علم المالكين الذين سدّدوا ثمن الشقق كاملة، ما أثار استياءً عارماً قابله صمت رسمي. فساد وتواطؤ وتلاعب قانوني في مدينة الشيخ زايد، يواجه السكان أزمة من نوع آخر مع شركة "سوديك"، بعدما انهارت أجزاء من فيلا نتيجة "غش إنشائي"، بحسب تقارير رسمية. الشركة تجاهلت اشتراطات الترخيص، ما أدى لتأسيس المبنى على تربة غير صالحة للبناء، في مخالفة لقانون البناء. الأدهى أن المالكون اتهموا الشركة بإرسال منتحلي صفة لتمثيلها قضائيًا، والتلاعب بالمستندات، فضلاً عن قطع المياه والكهرباء عن الممتنعين عن دفع الرسوم المفروضة، والتي تزيد عدة أضعاف عن مثيلاتها في مشاريع الدولة. انهيار الطبقة المتوسطة وصمت الدولة التدهور الاقتصادي وتراجع قيمة الجنيه جعل من سكان هذه المجتمعات رهائن داخل منازلهم. لم يعودوا قادرين على تحمل أعباء اللجوء إلى القضاء، أو حتى مغادرة منازلهم المتعثرة، بينما تتجاهل السلطات شكاواهم، رغم أن مشاريع عديدة – كـ"سيدي عبد الرحمن" – متوقفة منذ أكثر من خمس سنوات، ومع ذلك أصدرت الشركات أحكامًا بالسجن ضد المالكين لإجبارهم على توقيع عقود جديدة بشروط مجحفة. عندما يتحول المطور إلى خصم وحَكم وجلّاد تقول إحدى المالكات في "بيفرلي هيلز": في مشاريع كثيرة، لم تكتفِ الشركات بالمماطلة أو التحايل، بل استخدمت القوة أو التهديد لإسكات الأصوات، وإن شركتها منعت عنها الترميم رغم ملكيتها الرسمية للوحدة، ورفضت إدخال أي تعديل إلا بموافقتها، وكأنّ الوحدة لا تزال مملوكة لها. وتضيف: "تعرضت لاقتحامات من قبل بلطجية منذ يناير، وتجاهلت الأجهزة الرقابية كل ذلك، بل إن جهاز مدينة الشيخ زايد، المفترض أن يحمي السكان، بات متواطئًا، لا يتدخل حتى بعد انفجار غاز أودى بحياة 8 أشخاص بسبب الإهمال في أحد المشاريع". العسال ومجموعة مصر إيطاليا: التزوير والهرب إلى لندن ضربت أزمة قانونية مدوية قطاع التطوير العقاري عندما أُدين محمد هاني العسال، الرئيس التنفيذي لشركة "مصر إيطاليا"، بتهم تزوير رسمية لاختطاف إدارة المجموعة. التحقيقات كشفت استعانته بأشخاص لتزوير توكيلات رسمية وختمها بأختام حكومية مزيفة. العسال غادر إلى لندن بعد دفع كفالة قدرها 2 مليون جنيه، ولا يزال هاربًا، رغم إدراجه على قوائم الإنتربول. الأزمة أثّرت سلباً على مشاريع ضخمة مثل "البوسكو" و"ڤينشي"، وسط تخبّط إداري وشكاوى بالجملة من تعطيل التسليم. "دريم لاند": فساد إداري وسلطة المال في قبضة المنتفعين في مدينة "دريم لاند"، يشتكي السكان من اختفاء رئيس مجلس الإدارة، وهيمنة مجموعة من المنتفعين على إدارة الأموال، في غياب أي رقابة مالية. تم إبرام عقود بيع وتأجير بمصالح متضاربة، وسط تدهور في الخدمات. منظومة خارج السيطرة يرى خبراء قانونيون أن غياب التشريعات الرادعة والرقابة المستقلة هو السبب الجوهري. ويقول أحدهم: "الوحدة السكنية داخل الكومباوند ليست ملكًا فعليًا للساكن، لأنها محاطة ببنية ومرافق يتحكم فيها المطور، وحتى تسجيل العقار ونقل الملكية يتطلب موافقة الشركة، التي تفرض ما يصل إلى 20% من قيمة البيع مقابل نقل الملكية". ويضيف: "إذا كانت الدولة تسعى لتصدير العقار وجذب الاستثمار، فعليها أولًا كبح فوضى الداخل، وإصدار قانون موحد يحمي حقوق المشترين، ويفرض على الشركات احترام العقود والمواعيد والتعويضات". من حلم المدينة الآمنة.. إلى سجن محاط بالبوابات ما يحدث اليوم في مجتمعات الرفاهية المغلقة يعكس خللاً هيكليًا في بنية السوق العقارية في مصر، وسط تواطؤ إداري، وشراكات بين شركات التطوير وأطراف داخل أجهزة الدولة، أفرزت طبقة من "أباطرة العقار" الذين يحكمون خارج القانون.