في قلب القاهرة وعلى مرمى حجر من مؤسسات حيوية ومناطق سكنية مكتظة، يواجه أكثر من 450 ألف مواطن في زهراء المعادي خطرًا بيئيًا وصحيًا متفاقمًا، تُشعله كل ليلة ألسنة لهب تلتهم نفايات مجهولة المصدر، في ظل غياب حقيقي للإرادة الحكومية لمعالجة الأزمة من جذورها. سبعة أشهر مرّت وسكان الحي يتنفسون دخانًا سامًا، دون أن يحصلوا على أبسط حقوقهم في بيئة آمنة وهواء نقي.
معاناة في كل بيت.. وأطفال يختنقون في صمت
مروة مبارك، أستاذة جامعية وأم لطفل رضيع يعاني من عيب خلقي في القلب والرئة، تختصر معاناة مئات الأسر بكلمات دامعة: "كل ليلة نغلق النوافذ ونشغّل المكيفات ونضع ستائر سميكة، لكن الدخان يتسلل ويخنق طفلي… أنقله أحيانًا من بيتنا إلى بيت والدتي، فقط لأبحث له عن هواء يمكن تنفسه".
حالة الرضيع ليست استثناءً، بل نموذجًا متكررًا في أحياء زهراء المعادي، حيث تتوالى الشكاوى من مضاعفات التنفس، والتهاب العيون، والحلق، والأزمات الصدرية. كبار السن ومرضى الربو أيضًا أصبحوا في مواجهة يومية مع تهديد قاتل لا يراه أحد من المسؤولين.
أكثر من 200 شكوى رسمية بلا مجيب
منذ نوفمبر 2024، سجّل السكان أكثر من 200 شكوى رسمية، وجهوها إلى رئاسة الجمهورية، مجلس الوزراء، وزارة البيئة، محافظة القاهرة، وحيي المعادي والبساتين، فضلاً عن بوابة الشكاوى الحكومية. لكن الردود - إن وصلت - بقيت في إطار "نُتابع"، بينما تظل الأدخنة في تصاعد.
وأطلق المتضررون حملة إلكترونية بعنوان "#لا_لحرق_النفايات_في_زهراء_المعادي"، سعوا من خلالها لجذب الانتباه إلى كارثة تتفاقم بصمت، دون أي تحقيق شفاف أو مساءلة للجهات المتورطة.
تتبع شعبي لمصادر التلوث: “الأخوار”، و”الردش”، ومقلب سعد زغلول
في ظل غياب أي استجابة ميدانية من الجهات المعنية، بادر سكان الحي بأنفسهم إلى مراقبة مصادر الأدخنة. وجيه محمد، أحد المتطوعين، يحدد ثلاث بؤر رئيسية للتلوث:
منطقة الأخوار على طريق العين السخنة: تحرق فيها نفايات بلاستيكية ومطاطية في الهواء الطلق.
مقلب سعد زغلول: يُلقى فيه الردش والنفايات دون رقابة، وتشتعل النيران بانتظام.
أرض أمام شركة الغاز: تحوّلت إلى نقطة إشعال شبه يومية للردش.
ويضيف وجيه: "نصبنا كمينًا لإحدى الشاحنات التي تنقل نفايات وتُشعل الحرائق. الشاحنة لم تكن تحمل لوحات، وتم تسليمها للشرطة، لكن لا شيء تغيّر بعد ذلك."
بيان وزاري خجول لا يُطفئ الأدخنة
في 13 مايو، وبعد ضغوط إعلامية وإلكترونية، أصدرت وزارة البيئة بيانًا كشفت فيه عن قيام أحد المشروعات السكنية بالقاهرة الجديدة بإلقاء المخلفات في منطقة قريبة من وادي دجلة، ما تسبب في الحرائق. ورغم تعهد الوزارة بتغطية المخلفات ومحاسبة الجهة المسؤولة، يقول السكان إن الأدخنة لا تزال تنبعث كل ليلة، دون أي فرق يُذكر.
رأي طبي: دخان سام ومسرطن يهدد الأطفال والمسنين
الدكتور مصطفى محمود، استشاري الرعاية المركزة وأحد سكان المنطقة، يؤكد: "ما يحدث هو جريمة صحية. الأدخنة تحتوي على مركبات عضوية طيّارة، بعضها مسرطن. هذا الخطر لا يمس المرضى فقط، بل يهدد الأصحاء أيضًا، وخصوصًا الأطفال."
تحذيرات منظمة الصحة العالمية تدعم هذه المخاوف، إذ ربطت بين حرق البلاستيك وتزايد الإصابات بالأمراض التنفسية، وأمراض القلب، بل والسرطان.
حق دستوري مهدر.. وبيئة بلا حماية
ينص الدستور المصري (المادة 46) على أن "لكل شخص الحق في بيئة صحية سليمة"، والمادة 18 على أن "لكل مواطن الحق في الرعاية الصحية المتكاملة"، إلا أن ما تشهده زهراء المعادي يُظهر أن هذه النصوص لا تترجم إلى أفعال.
السكان يطالبون الآن بتشكيل لجنة تحقيق مستقلة، تضم خبراء بيئيين، وممثلين من المجتمع المحلي، لقياس جودة الهواء ليلاً، وكشف الجهات المسؤولة عن هذا التلوث البيئي المنهجي.