في ختام زيارته لمصر لإجراء المراجعة الخامسة في مايو 2025، شدد صندوق النقد الدولي على ضرورة "تقليص دور الدولة في الاقتصاد" و"توسيع القاعدة الضريبية"، في إطار التزامات الحكومة المصرية ضمن اتفاقية قرض بقيمة 8 مليارات دولار وُقعت في مارس 2024.

يأتي ذلك بعد سلسلة من القروض والبرامج الاقتصادية التي تبنتها حكومة عبد الفتاح السيسي منذ استيلائه على الحكم في يوليو 2013 عقب الانقلاب العسكري على الرئيس الراحل محمد مرسي.

ويؤكد الصندوق أن تدخل الدولة الواسع في الاقتصاد يحدّ من فاعلية السوق ويعرقل مشاركة القطاع الخاص، داعيًا إلى تسريع وتيرة الخصخصة وفرض ضرائب جديدة لتقليل العجز في الموازنة العامة.

 

الخصخصة والضرائب: تهديد مباشر للطبقات الفقيرة

توسيع القاعدة الضريبية في مصر، بحسب ما أوضح مسؤولون من صندوق النقد، يتطلب "ضم القطاع غير الرسمي إلى النظام الضريبي" و"إلغاء الإعفاءات التي لا مبرر لها". عمليًا، هذا يعني تحميل الفئات الفقيرة والطبقة المتوسطة أعباءً إضافية في بلد تجاوز فيه معدل الفقر 29.7% حسب الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء في 2023.

كما أن الخصخصة المتسارعة لعدد من الشركات العامة -ومنها شركات الكهرباء والنقل والمياه- تهدد برفع أسعار الخدمات الأساسية، مما يعمّق الأزمة المعيشية للمواطنين.

ويشير محللون اقتصاديون إلى أن "تقليص دور الدولة في قطاعات استراتيجية يؤدي إلى ارتفاع الأسعار، ويترك المواطن فريسة للمحتكرين".

 

خلفية تاريخية لقروض مصر من صندوق النقد الدولي

بدأت مصر تعاملاتها مع صندوق النقد الدولي منذ فترة السادات، حيث شهدت البلاد طلبات قروض عدة لسد عجز الموازنة.

في يناير 2013، طلبت حكومة الجنزوري قرضاً بقيمة 3.2 مليار دولار رفضه مجلس الشعب.

في عهد الرئيس الشهيد محمد مرسي، تمت الموافقة على قرض مبدئي بقيمة 4.7 مليارات دولار لكن الأحداث السياسية حالت دون صرفه.

بعد انقلاب يوليو 2013، ترددت أنباء عن اقتراضات من الصندوق، ونفت الحكومة ذلك في البداية، قبل أن تتواصل القروض بشكل أكبر في عهد السيسي

 

قروض بلا جدوى تنموية: أين ذهبت أموال الديون؟

منذ انقلاب 2013، تضاعف حجم الدين الخارجي المصري من حوالي 43 مليار دولار إلى أكثر من 165 مليار دولار بحلول الربع الأول من 2025، بحسب بيانات البنك المركزي المصري.

ورغم تدفق عشرات المليارات من القروض والمساعدات الخليجية، لا تزال مصر تعاني من تراجع في احتياطي النقد الأجنبي وتضخم تجاوز 30% في بعض الأشهر من 2024.

الغريب أن هذه القروض لم تُستخدم لتحفيز الإنتاج أو دعم التعليم والصحة، بل ذهبت إلى مشروعات كبرى مثيرة للجدل، مثل العاصمة الإدارية الجديدة، التي تجاوزت تكلفتها 58 مليار دولار، ومشروع القطار الكهربائي السريع، إلى جانب صفقات تسليح بمليارات الدولارات رغم الأزمة الاقتصادية.

 

أرقام ديون مصر وتداعياتها الاقتصادية

وصل الدين الخارجي لمصر عام 2021 إلى نحو 137 مليار دولار، فيما بلغ إجمالي الدين الوطني (محلي وخارجي) حوالي 370 مليار دولار، أي تضاعف أربع مرات منذ 2010.

في 2024، ارتفع الدين الخارجي إلى حوالي 166 مليار دولار بعد قرض جديد بقيمة 9 مليارات دولار من صندوق النقد.

الفوائد المطلوب سدادها عن القروض في موازنة 2021/2022 بلغت 579.6 مليار جنيه (3.7 مليار دولار)، ما يشكل عبئاً ثقيلاً على الاقتصاد الوطني ويحد من قدرة الدولة على الإنفاق على الخدمات الأساسية

 

تصريحات تُثير القلق: الاقتصاد في قبضة العسكر

منذ توليه السلطة، أطلق عبد الفتاح السيسي يد المؤسسة العسكرية في الاقتصاد بشكل غير مسبوق، وهو ما تعترف به وثائق صندوق النقد ذاته، حيث يشير الصندوق في تقاريره إلى "ضرورة مراجعة دور الشركات التابعة للجيش في الأنشطة التجارية".

وفي تصريحات شهيرة في ديسمبر 2022، قال السيسي: "لن أسمح لأحد أن يتدخل في مشاريع الجيش... هذه مسألة أمن قومي"، وهو ما اعتُبر مؤشرًا على رفض الشفافية والمساءلة.

اقتصاديون معارضون يرون أن تغوّل الجيش في الاقتصاد يعرقل المنافسة ويُخيف المستثمرين، كما أنه يجعل من الصعب إجراء إصلاحات حقيقية أو محاسبة المسؤولين عن سوء إدارة الموارد.

 

مخاطر الانهيار الاجتماعي في ظل السياسات الاقتصادية القاسية

الإجراءات التي يطالب بها صندوق النقد -من رفع الدعم وتقليص القطاع العام وزيادة الضرائب- تهدد بتوسيع الفجوة الاجتماعية، خاصة في ظل غياب شبكات حماية اجتماعية فعّالة.

في تقرير أصدره البنك الدولي في أبريل 2024، حُذّرت مصر من "مخاطر اضطرابات اجتماعية بسبب ارتفاع تكاليف المعيشة وانعدام العدالة الاقتصادية". ويؤكد اقتصاديون مستقلون أن هذه السياسات تخدم النخبة المقربة من النظام وتُفقر غالبية الشعب.

وقد بدأت بالفعل مظاهر الاستياء تظهر في عدد من الاحتجاجات العمالية والمحلية، رغم القبضة الأمنية المشددة.

يرى مراقبون أن المخرج الحقيقي من الأزمة الاقتصادية في مصر لا يكمن في المزيد من الاقتراض أو تنفيذ شروط مجحفة من المؤسسات الدولية، بل في إصلاح سياسي جذري يعيد السلطة إلى الشعب ويضمن الرقابة على المال العام.

ويقول الدكتور محمد محسوب، وزير الدولة للشؤون القانونية الأسبق، إن "المشكلة الحقيقية أن السلطة الحالية لا تمثل الشعب ولا تحاسب أمامه، وبالتالي فلا يمكن الوثوق في استخدامها للموارد أو القروض بشكل يخدم الصالح العام".