في ظل تصاعد أعباء الاقتصاد وتحولات سياسية واقتصادية عميقة، بات الدواء في المستشفيات الحكومية ليس مجرد خدمة صحية مجانية تُقدّم للمواطنين وفقاً للدستور، بل سلعة نادرة تُباع بأسعار السوق المرتفعة، تضع العديد من المرضى، خصوصاً ذوي الدخل المحدود، أمام خيارات علاج صعبة ومكلفة.
 

من الخدمة المجانية إلى السوق المفتوحة
   كانت المادة 18 من الدستور تكفل لكل مواطن الحق في الصحة والرعاية الصحية المتكاملة، مع إلزام الدولة بالحفاظ على مرافق الخدمات الصحية العامة، وتوفير العلاج بالمجان. إلا أن الحكومة تحولت في السنوات الأخيرة إلى فرض نظام "تنظيم صرف الأدوية" داخل صيدليات المستشفيات، بحجة ضبط الإنفاق والحد من إهدار المال العام.
هذا التنظيم تطور إلى وضع قيود صارمة على صرف الأدوية مجاناً، ليصبح جزء كبير منها يُباع داخل نفس المستشفيات بأسعار قريبة من أسعار السوق.

الأطباء يعترضون على هذه السياسات، ويصفونها بأنها تراجع خطير في دور الدولة، ويخشون أن تكون مقدمة لتحويل العلاج من حق أساسي إلى سلعة لا تُتاح إلا للمقتدرين مادياً.
 

خصخصة المستشفيات... هل هو مخطط مقنع أم تفريط في الصحة العامة؟
   تزامناً مع هذه الخطوة، تتفاوض الحكومة مع صناديق استثمار خليجية وعربية لبيع حصص استراتيجية في المستشفيات الحكومية وشركات الأدوية التابعة للدولة.
جاء ذلك بعد صدور قانون "تنظيم منح التزام المرافق العامة لإنشاء وتشغيل وتطوير المنشآت الصحية" في يونيو 2024، والذي يتيح تأجير المستشفيات العامة للمستثمرين لمدة 15 عاماً بحجة تطويرها.

وفي خضم هذه السياسة، طرحت الحكومة 45 مستشفى للإيجار، وأتمت تأجير 5 مستشفيات في القاهرة والجيزة، بينما تستعد لطرح 160 مستشفى حكومي خلال العامين المقبلين.
هذه الخطوات تثير مخاوف واسعة من فقدان السيطرة الحكومية على قطاع الصحة العامة، مما قد يؤدي إلى ارتفاع كبير في تكاليف العلاج، وإبعاد ملايين المصريين عن حق العلاج على نفقة الدولة.

برلمانيون مثل ضياء الدين داوود وصفوا هذه الخطوات بأنها تعبير عن عجز الحكومة وتخليها عن مسؤولياتها تجاه صحة المواطنين، في وقت تزداد فيه معاناة الناس اقتصادياً بسبب سياسات التقشف والتضخم المرتبط ببرامج صندوق النقد الدولي.
 

موجة ارتفاع أسعار الأدوية... عبء على المواطن والمريض
   ليس فقط تحويل صرف الدواء إلى تجارة داخل المستشفيات، بل إن أسعار الأدوية شهدت ارتفاعات متتالية بلغت نسبتها 41% خلال عام 2024 فقط، مع زيادات تجاوزت 50% على أكثر من 2200 صنف دوائي، بما يمثل حوالي 38% من إجمالي الأصناف المسجلة.

تأثرت هذه الزيادة برفع أسعار المواد الخام، وتحرير سعر صرف الجنيه، وقرار هيئة الدواء المصرية بإجراء زيادات منتظمة في الأسعار.
وتستمر هذه الزيادات لتشمل آلاف الأصناف، خاصة أدوية الأمراض المزمنة، والأورام، ومضادات الالتهابات، وغيرها من الأدوية الأساسية.

محمود فؤاد، مدير المركز المصري للحق في الدواء، أكد أن هذه الزيادات تضغط بشدة على المرضى، وخصوصاً كبار السن والمصابين بأمراض مزمنة، مشيراً إلى أن الحكومة تقلل مخصصات العلاج على نفقة الدولة رغم النصوص الدستورية التي تلزمها بتخصيص 3% من الناتج القومي للصحة، بينما لا تتجاوز الموازنة الفعلية حالياً 1.17%.
 

صناعة الدواء بين التحديات والفرص
   تمتلك مصر قطاعاً دوائياً متطوراً نسبياً مع أكثر من 170 مصنعاً محلياً، يغطي 91.3% من الاحتياجات الدوائية في السوق.
لكن القطاع يعاني من مشاكل تمويلية، وارتفاع تكلفة المواد الخام المستوردة، مما أدى إلى توقف بعض الشركات عن تصنيع أدوية ذات سعر منخفض.

في الوقت نفسه، تستعد الحكومة لطرح حصص من شركات دوائية حكومية كبرى أمام مستثمرين محليين وعرب، في إطار توجه أوسع لتحرير القطاع الصحي والدوائي.