في غرفة بيضاء بمستشفى "معهد ناصر" بالقاهرة، يرقد أحد أعمدة الرواية العربية المعاصرة، صنع الله إبراهيم، عاجزًا عن الحركة بعد كسر خطير في مفصل الحوض، في وقت يعاني فيه جسده النحيل من نزيف داخلي وقرحات معدية تهدد حياته، دون أن يلقى استجابة رسمية كافية لعلاجه في مستشفى مجهز أو نقله إلى رعاية صحية تليق بتاريخه وقيمته الأدبية.
عمره الآن 87 عامًا. سبعة عقود قضاها منحازًا للناس والحرية، مناضلًا بالكلمة، ناقدًا للسلطة والفساد والاستبداد، لكنه اليوم يجد نفسه في مواجهة مصير غامض، وسط مناشدات مستمرة من كتاب ومثقفين ومسؤولين سابقين تطالب الحكومة بتحمل مسؤوليتها وإنقاذه، دون تحرك فعّال حتى اللحظة.
"إصابته تهدد حياته.. وعلاجه يتأخر"
بدأت الأزمة قبل أيام حين تعرّض صنع الله لكسر في الحوض أقعده تمامًا، تزامنًا مع معاناته من نزيف معدي داخلي، أثار مخاوف الأطباء من أي تدخل جراحي بسبب هشاشة حالته الصحية وتقدمه في العمر. مصادر مقربة من أسرته أكدت أن حالته "حرجة" وتتطلب نقله العاجل إلى مستشفى أفضل تجهيزًا، لكن ذلك لم يحدث حتى الآن.
يقول أحد أصدقائه من الكُتّاب: "صنع الله يواجه معركة بقاء، لا نطالب بعلاج ترفيهي، بل بحق إنساني وأخلاقي لرجل أفنى عمره في الدفاع عن هذا البلد ووعي ناسه".
"المثقفون يصرخون.. والحكومة صامتة"
مع تصاعد القلق على صحة الكاتب الكبير، خرج عدد من المثقفين والروائيين البارزين بمناشدات علنية تطالب الحكومة بالتدخل السريع.
من بين هؤلاء، الروائي إبراهيم عبد المجيد، والروائية رانيا أبو العينين، والروائي إبراهيم فرغلي، ونعيم صبري، إلى جانب الشاعر فاروق جويدة.
الجميع يطالب بشيء بسيط: "نقله إلى مستشفى متخصص، وعلاجه على نفقة الدولة".
غير أن الاستجابة الرسمية حتى الآن لم تتجاوز حدود التصريحات العامة.
ففي مارس الماضي، بعد أزمة صحية سابقة، أعلن وزير الثقافة أحمد فؤاد هنو متابعته لحالة صنع الله، وتواصله مع وزير الصحة خالد عبد الغفار، الذي وعد بتوفير الرعاية الطبية والدم اللازم.
كذلك صرح رئيس اتحاد الكتاب علاء عبد الهادي بترتيب زيارة لمتابعة علاجه.
لكن تلك الوعود، وإن كانت طيبة، لم تمنع التدهور المتسارع في حالته اليوم.
"رمز أدبي يتلاشى وسط الإهمال"
حين تُسأل من هو صنع الله إبراهيم؟ لا تتحدث فقط عن روائي؛ بل عن سيرة وطن، مرآة جيل، وثائر بالكلمة. بدأ صنع الله مشروعه الأدبي عام 1967 برواية "إنسان السد العالي"، وواصل بناء عالم روائي فريد من نوعه، مستلهمًا تقنيات السيرة، والتوثيق الصحفي، والأسلوب الكابوسي في آنٍ معًا.
في "اللجنة" (1981)، جسّد قسوة السلطة وبيروقراطيتها بشكل مدهش.
وفي "بيروت بيروت" رصد الحرب الأهلية اللبنانية من الداخل.
وفي "ذات" قدّم بانوراما دقيقة لتحولات المجتمع المصري من السبعينات وحتى التسعينات.
رواياته لا تُقرأ فقط، بل تُدرّس.
صوته المميز حفر اسمه كواحد من أهم كُتّاب العربية المعاصرين، وجعل منه شاهدًا وكاتبًا على العصر.
ورغم ذلك، يبدو أن الدولة المصرية التي تُغرق شوارعها بصور "أبطال دراما رمضان"، لم تجد حتى الآن سببًا لنقل هذا البطل الحقيقي إلى مستشفى يليق بتاريخه، و"منحه ما يستحقه وهو على قيد الحياة، لا بعد فوات الأوان".
"عيب على بلد أن تفقد ذاكرتها"
من دمشق، كتبت الشاعرة السورية هنادي زرقة: "حين زرت مصر لم أفكر في الأهرامات أو المتحف المصري، كان أول من خطر ببالي زيارته هو صنع الله إبراهيم".
هذه الكلمات التي تتردّد على ألسنة محبيه داخل مصر وخارجها، تضع سؤالًا مرًا أمام المؤسسات المعنية: كيف فقدنا الشعور بقيمة رموزنا؟
يقول أحد المثقفين في تعليق له: "عارٌ على أي حكومة أن تترك روائيًا بحجم صنع الله إبراهيم في سرير متآكل داخل مستشفى لا يؤمّن له العلاج المناسب.
صنع الله مش بس مريض.. ده مرآتنا".