وفق شهادات لأطباء، توقّفت آلاف العمليات الجراحية في المستشفيات الحكومية بسبب نقص حاد في الأدوية والمستلزمات الطبية، نتيجة أزمة الدولار وتداعيات فشل هيئة الشراء الموحد في توفير احتياجات القطاع.

المشهد لا يتوقف عند غرف العمليات المعطّلة، بل يمتد إلى صيدليات خالية، ومرضى يتنقلون بين المحافظات بحثًا عن دواء مفقود أو جرعة حياة قد لا تأتي، في مشهد يعبّر عن انهيار تدريجي لمنظومة الرعاية الصحية العامة.
 

نزيف المستشفيات
   قوائم انتظار تتضخم وعمليات متوقفة داخل أروقة المستشفيات الحكومية، تتكرر مشاهد الإحباط والعجز. مرضى ينتظرون عمليات قسطرة قلبية أو تركيب دعامات أو مفاصل صناعية، لكن النقص الحاد في الأدوات الجراحية ومواد التخدير يعطّل كل شيء.
في بعض الحالات، تُنقل الحالات الحرجة من مستشفى إلى آخر في محاولة يائسة للعثور على المستلزمات المطلوبة، في رحلة تستنزف المريض نفسيًا وجسديًا وماديًا.

يقول محمود فؤاد، مدير المركز المصري للحق في الدواء، إن “عمليات زراعة الكبد والكلى تضررت بشدة، وتوقفت أنواع محددة من القسطرة القلبية، كما أن جراحات العظام والمفاصل أُلغيت بسبب نقص المسامير والمفاصل الصناعية، مما يعكس انهيارًا كاملاً في منظومة الجراحة العامة”.
 

هيئة الشراء الموحد
   
وأُنشئت هيئة الشراء الموحد عام 2019 بهدف تنظيم مشتريات الدولة من الأدوية والمستلزمات، وضمان الشفافية وتقليل الإنفاق، لكنها باتت اليوم في قلب أزمة تعصف بالقطاع الصحي.
إذ فشلت الهيئة في تدبير المخزون الاستراتيجي المطلوب، بعد تراكم مديونياتها لصالح الشركات الموردة، التي توقفت بدورها عن التوريد، بسبب عجزها عن استيراد مستلزمات جديدة.

يقول فؤاد: “بعد احتكار الهيئة لعملية الشراء، لم تعد أي جهة قادرة على التدخل لحل الأزمات، ما خلق اختناقًا خطيرًا، خصوصًا في ظل تسعير الأدوية إجباريًا، وبيع المستلزمات الطبية في السوق الحر”.
 

اختفاء الأدوية.. من الضغط والسكري إلى السرطان والعقم
   اختفت أكثر من ألف صنف دوائي من السوق، أبرزها أدوية ارتفاع ضغط الدم، والسكري، وأمراض القلب والغدة والكلى، بالإضافة إلى أدوية السرطان، والبرد، والنزلات المعوية، وحتى نقط الأنف للأطفال.
وتُقدَّر نسبة النقص بنحو 30% إلى 40% من إجمالي الأدوية المتداولة، منها 15% لا تتوافر لها بدائل.

ويكشف فؤاد أن النقص امتد إلى أدوية الخصوبة والهرمونات النسائية الضرورية للحمل، والتي تُباع الآن في السوق السوداء بأسعار مضاعفة، مشيرًا إلى أن "حقنة جيناتور" مثلًا لم تعد تُباع بالسعر الرسمي (245 جنيهًا)، بل تُباع في المستشفيات الخاصة بأسعار تصل إلى 3000 جنيه.
 

صوت المرضى لا يصل
   وقد نشأت سوق سوداء موازية داخل بعض المستشفيات والمراكز الخاصة، حيث تُباع الأدوية والمستلزمات بأسعار خيالية.

يقول فؤاد: “ما يحدث هو ابتزاز للمرضى، الدولة لا توفر الدواء، ولا تراقب تسعير القطاع الخاص، ما جعل حياة المرضى الفقراء على المحك”.

وفي المحافظات البعيدة مثل مطروح وأسوان والفيوم، تتفاقم الأزمة أكثر، حيث لا تتوافر صيدليات الإسعاف الحكومية التي تحاول الدولة استخدامها لتوفير الأدوية الاستراتيجية، ما يُجبر المرضى على السفر مئات الكيلومترات بحثًا عن العلاج.
 

الفشل الكلوي.. أزمة الفلاتر والعدوى القاتلة
   
أما مرضى الفشل الكلوي، فهم الحلقة الأضعف في هذه المعادلة القاتلة. مراكز غسيل الكلى توقفت في أكثر من منطقة بسبب نقص الفلاتر ومواد التنقية، وتراجع عمليات الصيانة، ما يهدد بانتشار العدوى، خاصة فيروس سي.

يقول فؤاد، في تصريحاته الصحفية: "هناك نقص حاد في فلاتر وأجهزة الغسيل، وغياب قطع الغيار الأساسية، وهذا يعرّض أرواح الآلاف للخطر يوميًا".
 

تسعير إجباري وعجز استيرادي
   رئيس شعبة الأدوية بالغرفة التجارية، علي عوف، اعتبر أن جزءًا من الأزمة يتعلق بإصرار الأطباء والمرضى على اسم تجاري معين بدلًا من الاسم العلمي، ما يُفاقم الأزمة رغم وجود بدائل دوائية فعالة.
لكنه أقر أيضًا بأن الأزمة تمتد إلى جذور أعمق، أبرزها تأثر الصناعة الدوائية بالأزمة الاقتصادية، وارتفاع تكلفة الإنتاج، وانهيار قيمة الجنيه، وهو ما جعل شركات كثيرة تحجم عن الإنتاج خشية الخسائر.
 

الحكومة في موقف المتفرج
   و في ظل كل هذه المعطيات، تبدو حكومة عبدالفتاح السيسي عاجزة عن التدخل السريع، سواء من خلال توفير تمويل عاجل لهيئة الشراء الموحد، أو عبر إعادة تنظيم سوق الدواء وضمان استمرارية الإنتاج المحلي.
وبدون خطة طوارئ واضحة، ستواصل الأزمة التصاعد، لتتحول من أزمة دواء إلى أزمة حياة.