رغم مرور أكثر من نصف قرن، لا تزال مذبحة بحر البقر حية في ذاكرة المصريين والفلسطينيين على حد سواء، كرمزٍ صارخ لوحشية الاحتلال الإسرائيلي واستهدافه الممنهج للأطفال.
في 8 أبريل 1970، استيقظ العالم على واحدة من أبشع جرائم الاحتلال، حين قصفت طائراته مدرسة ابتدائية في قرية بحر البقر بمحافظة الشرقية، لتحيل ثلاثة فصول دراسية إلى ركام مختلط بأشلاء 30 طفلًا ومُدرسًا، وتُخلّف وراءها 50 مصابًا وجراحًا لا تزال تنزف حتى اليوم.

واليوم، وبينما تطفئ الذاكرة شمعتها الخامسة والخمسين على تلك الجريمة، يتجدد الألم نفسه في غزة والضفة والقدس، حيث تتواصل المجازر الإسرائيلية بحق الأطفال الفلسطينيين تحت صمتٍ دوليٍ مخزٍ.
 

مذبحة في قلب المدرسة.. حين دوى الانفجار بدلًا من جرس الحصة
   لم تكن مدرسة بحر البقر سوى مبنى بسيط من طابق واحد يضم ثلاثة فصول، بها نحو 130 طفلًا تتراوح أعمارهم بين 6 و12 عامًا.
في صباح الأربعاء، 8 أبريل 1970، كانت الحصة الدراسية قد بدأت للتو، حين شنت طائرات الفانتوم الإسرائيلية غارة جوية مفاجئة، أسقطت خلالها خمس قنابل وصاروخين على المدرسة، فحوّلتها إلى مقبرة جماعية.

الشهادات المروعة للناجين تحكي عن صراخ الأطفال، وانفجار الحقائب المدرسية، واختلاط الدم بالكراريس والكتب.
ومن بين الشهداء الذين وثقت أسماؤهم:

  • حسن محمد السيد الشرقاوي
  • إيمان الشبراوي طاهر
  • فاروق إبراهيم الدسوقي هلال
  • نجاة محمد حسن خليل
  • زينب السيد إبراهيم عوض
    وغيرهم من الزهور التي قُطفت قبل الأوان.

المتعلقات شاهدة.. والذاكرة عصيّة على النسيان
رغم السنين، لا تزال متعلقات الضحايا من ملابس وأحذية ودفاتر وأجزاء من القنابل، محفوظة في متحف صغير داخل قرية بحر البقر، كوثائق دامغة على الجريمة.
تحولت هذه القطع إلى رمز دائم يذكّر الأجيال المتعاقبة بأن الاحتلال لا يتردد في استهداف الأطفال، وأن جريمة الأمس تتكرر اليوم في غزة، حيث لا تزال المدارس تُقصف والملاجئ تُدكّ.
 

العالم يشهد.. والاحتلال يبرر
   أثارت المجزرة حينها غضبًا عالميًا واسعًا. ووصفت الحكومة المصرية القصف بأنه "عمل وحشي يتنافى مع كل الأعراف والقوانين الإنسانية"، فيما اضطرت الإدارة الأميركية بقيادة نيكسون إلى تأجيل صفقة طائرات حديثة لإسرائيل تحت ضغط الرأي العام.

غير أن وزير الدفاع الإسرائيلي آنذاك، موشيه ديان، لم يجد حرجًا في تبرير الجريمة زاعمًا أن "المدرسة هدف عسكري".
المفارقة أن الطيار الإسرائيلي "إمي حاييم" الذي شارك في القصف وأُسر لاحقًا في حرب أكتوبر 1973، أقر صراحة بأنهم كانوا يعرفون أنهم يقصفون مدرسة ابتدائية، وأن الهدف لم يكن سوى إرهاب المدنيين.
 

من بحر البقر إلى غزة.. أطفال في مرمى نيران الاحتلال
   منذ مذبحة بحر البقر وحتى المجازر اليومية في قطاع غزة، يتجدد السؤال: لماذا يستهدف الاحتلال الأطفال؟ من مدارس الأونروا إلى حضانات اللاجئين، لم تنجُ أي مؤسسة تربوية من غاراته.
في غزة وحدها، تُقصف المدارس والمستشفيات يوميًا، ويُقتل الأطفال تحت أنقاض منازلهم، بينما يبرر الاحتلال مجازره بحجج أمنية واهية.
 

الدرس لم يُمحَ.. والكراريس ما زالت دامية
   "الدرس انتهى.. لموا الكراريس"، هذا ما كتبته صحيفة مصرية حينها بدموع الغضب، لكن الحقيقة أن الدرس لم ينته بعد. فكراريس بحر البقر لا تزال شاهدة، ودماء أطفالها لم تجف، وأحلامهم الموءودة لا تزال تطارد كل ضمير حي.

واليوم، وفي زمنٍ تتراكم فيه الجرائم دون عقاب، تظل ذكرى مذبحة بحر البقر جرس إنذار بأن الاحتلال لا يفرّق بين طفل وجندي، وأن السلام الحقيقي لا يكون إلا بعد محاسبة القتلة.