كان منتصف الليل عندما ضرب القصف إحدى الخيام المخصصة للصحفيين في خان يونس. داخل الخيمة كان الصحفيان حسن اصليح وأحمد منصور، حيث كان منصور يتولى مناوبة الليل كمحرر في قناة "فلسطين اليوم". في تلك اللحظة، أصيبت يد اصليح اليمنى بشظية أدت إلى بتر أصابعه، كما أصيب في وجهه. أما الصحفي حلمي الفقعاوي، الذي كان نائمًا، فقد اخترقت الشظايا صدره وبطنه ووجهه.
حاول الصحفيون إخماد النيران المشتعلة، التي تفاقمت بفعل المواد القابلة للاشتعال داخل الخيمة من نايلون وإسفنج. وفي الوقت نفسه، أصابت شظية أخرى خيمة قناة "روسيا اليوم" المجاورة، ما أدى إلى انفجار أسطوانة غاز فارغة تقريبًا، خلّفت دخانًا كثيفًا في المكان.
في وسط الضباب، حاول الصحفيون إيقاظ زملائهم والتحقق من سلامتهم. أصيب المصور إيهاب البرديني بشظية في مؤخرة رأسه خرجت من جانب عينه اليمنى. الصحفي يوسف الخزندار، الذي غالبًا ما ينام في المكان، كان موجودًا أيضًا. وتعرض عدد من الصحفيين الآخرين لإصابات، منهم عبدالله العطار الذي أصيب في الطحال ونزف بغزارة، ومحمد فايق الذي أصيب في يده اليسرى.
بذل الجميع جهدهم لإخراج أحمد منصور من وسط النيران، لكن الظروف كانت قاهرة. رغم محاولاتهم المستميتة، لم يتمكنوا من إنقاذه.
وضع مأساوي
عمّت الفوضى المكان، خاصة بعد الإرهاق الشديد الذي عاشه الصحفيون إثر تغطيتهم لمجزرة النَفّار في خان يونس، حيث استشهد تسعة أشخاص في وقت سابق من اليوم. هذا الإرهاق جعلهم في حالة من التيه، ولم يستطيعوا حتى تذكر كيفية تقديم الإسعافات الأولية.
اضطروا لنقل المصابين سيرًا على الأقدام إلى مستشفى ناصر القريب. وهناك، بدأت تتضح حالات المصابين. إيهاب البرديني لا يزال في العناية المتوسطة، وحالته خطيرة. الصحفي حسن اصليح تعرض لإصابات بالغة، إذ تهشمت يده اليمنى وأصيب بشظايا في جمجمته وساقه. أما أحمد منصور، فقد أصيب بحروق شديدة، ونُقل إلى قسم العناية بالحروق، لكنه استشهد يوم الثلاثاء متأثرًا بجراحه.
أحلام محطمة
في اليوم السابق، أُقيمت جنازة حلمي الفقعاوي، الصحفي الشاب الذي التحق حديثًا بتغطية الجنازات وإجراء المقابلات. كان متحمسًا للعمل، وفرحًا بفيديو صوّره وانتشر بسرعة. قال لي بفخر: "أنا أقل خبرة منك، لكني سأصبح أكثر شهرة". كان يحلم بالعمل في وكالة أنباء دولية، ويطمح إلى التطور المستمر.
أحمد منصور، الذي تعرفت إليه في العاشر من أكتوبر 2023، كان أبًا لابنة وابن يُدعى وسام. كان يزور عائلته في حي الأمل يوميًا، ويؤوي عددًا من أقاربه النازحين في منزله. عملنا سويًا طوال الأشهر الثلاثة الأولى من الحرب، وقضينا ساعات طويلة في مواقع التغطية، نتشارك الجوع والمخاطر.
كان منصور طيبًا، حسن المظهر، يعتني بنفسه جيدًا، دائم التهذيب. لو كتب له النجاة، لما استطاع تحمل آثار الحروق التي أصيب بها. كان المشهد في المستشفى مفجعًا.
من الصعب عليّ اليوم النظر إلى الدراجة التي كان يقودها أو الخيمة التي كان يبيت فيها.
لأجل ذكراهم
أنا مرهق. أكثر من عام ونصف مرّا، ولم أتخيل أن تكون مسيرتي الصحفية بهذا الشكل. فقدت أصدقاء وزملاء عرفتهم لأكثر من عشر سنوات. لم أعد أحتمل التواجد في خيام الإعلاميين، ولا أطيق تبادل الحديث العابر مع من حولي، لأنني أخشى فقدان أحدهم في أي لحظة.
ما نعيشه هنا لا يمكن تخيله: قصف يومي وفقد متواصل. لست من حديد. أشعر أنني محطم من الداخل. أواصل عملي يوميًا فقط لأتجنب الجلوس في المنزل، لأن البقاء هناك سيدمرني. أفضل أن أُستشهد في الميدان.
رغم إصابتي، لا أستطيع التوقف عن العمل. أفعل ذلك من أجل زملائي، ومن أجل ذكراهم.