مع دخول الحرب في أوكرانيا عامها الثالث، أصبحت البلاد مركزاً لصراع عالمي متصاعد بين الولايات المتحدة وروسيا.
لكن خلف المعارك العسكرية والخطابات الدبلوماسية، يظهر اتجاه أعمق وأكثر تعقيداً يُجسّد ما يمكن تسميته بحدود الاستعمار الجغرافي الجديد، حيث لم تعد السيطرة تُمارس عبر الاحتلال العسكري فحسب، بل من خلال المساعدات المشروطة والاعتماد الاقتصادي.

تمثل أوكرانيا النقطة المحورية في هذا الصراع الجيوسياسي العالمي، باعتبارها دولة مستقلة ذات تاريخ عميق وعزيمة قوية للحفاظ على سيادتها.
ورغم المعاناة الكبيرة التي تسبب فيها الغزو الروسي، فإن الشعب الأوكراني ما زال يعبر عن امتنانه للدعم الذي يتلقاه من الاتحاد الأوروبي وغيره، والذي يتجاوز المساعدات العسكرية والمالية إلى البعد الرمزي والأخلاقي، حيث يرى الأوكرانيون في هذا الدعم اعترافاً بانتمائهم للأسرة الأوروبية.

تؤكد إيرينا فيريشوك، النائبة السابقة لرئيس الوزراء الأوكراني، أن وحدة الموقف الأوروبي تمنح أوكرانيا قوة، إذ يُنظر إلى المساعدات الأوروبية كدليل على دعم سياسي وأخلاقي يتجاوز البعد المادي، ويؤكد أن أوكرانيا تنتمي فعلاً إلى الفضاء الأوروبي.
وقد كان الحافز الأساسي وراء احتجاجات الميدان عام 2014 هو تطلع الأوكرانيين للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وليس مجرد مسألة عضوية في الناتو، ما يعكس أهمية القيم الأوروبية مثل الديمقراطية وسيادة القانون بالنسبة للشعب الأوكراني.

ورغم الدعم المتزايد من الغرب، تظل هناك مخاوف من تحول الاعتماد على المساعدات إلى تبعية هيكلية طويلة الأمد، لا سيما مع بداية مرحلة إعادة الإعمار وما تتطلبه من إصلاحات اقتصادية عميقة.
ففي حين تجاوز الدعم الأمريكي لأوكرانيا حاجز 75 مليار دولار، فإن هذا السخاء المالي يمنح واشنطن نفوذاً ملموساً في تحديد ملامح المستقبل الأوكراني، وقد يصبح هذا النفوذ أكثر تعقيداً مع بدء إعادة البناء.

تواصل روسيا، من جانبها، نهجها الإمبريالي الجديد، ليس فقط عبر العمليات العسكرية، بل من خلال محاولات محو الهوية الأوكرانية في المناطق التي تسيطر عليها. تصريحات بوتين التي ينكر فيها وجود أوكرانيا كدولة حقيقية تُظهر العقلية الاستعمارية التي تحكم رؤيته.
كما أن جهود موسكو لطمس اللغة والثقافة الأوكرانية في الأراضي المحتلة تعكس ممارسات استعمارية تقليدية تهدف إلى السيطرة على الأرض والذاكرة معاً.

الاستعمار الجغرافي الحديث يتجاوز القوة العسكرية ليمتد إلى أدوات ناعمة كالمساعدات المشروطة، والاتفاقيات الاستثمارية التي تخدم مصالح خارجية، وسرديات إعلامية تُحوّل الدول الأصغر إلى مجرد ساحات معارك لا فاعلين مستقلين.
الباحثة الروسية ناديا أرباتوفا تصف أوكرانيا بأنها أصبحت رمزاً في هذا السياق، لكنها تحذر في الوقت نفسه من أن الرموز قد تُستغل، والتحدي الأبرز هو قدرة أوكرانيا على الحفاظ على روايتها الذاتية في ظل هذا الصراع.

وتُثير الخطط الغربية لإعادة إعمار أوكرانيا، التي تقودها مؤسسات كبرى مثل صندوق النقد الدولي وشركات عالمية مثل بلاك روك وجي بي مورجان، تساؤلات حول مدى احترام هذه الخطط للسيادة الاقتصادية الأوكرانية، إذ تتعارض بعض المقترحات مع مصلحة الشعب وتُظهر ميلاً لتغليب منطق السوق على المصلحة الوطنية.

ورغم هذه التحديات، لا تزال أوكرانيا تُظهر مستويات غير عادية من الصمود والمبادرة.
المجتمع المدني والقيادات المحلية وشبكات المتطوعين يلعبون دوراً محورياً ليس فقط في مقاومة العدوان الروسي، بل أيضاً في دفع مسار الإصلاحات وبناء مستقبل أكثر شفافية ومحاسبة.
أوكرانيا لا تقف في موقف المتلقي السلبي للمساعدات، بل تتحرك بصفتها شريكاً فاعلاً في صناعة مستقبلها.

وبينما تتصاعد التوترات الجيوسياسية بين واشنطن وموسكو، يلوح في الأفق خطر تحويل أوكرانيا إلى ساحة صراع دائمة.
في هذا السياق، يصبح مفهوم "الاستعمار الجيوسياسي" بالغ الأهمية، لأن المساعدات قد تتحول إلى أداة للسيطرة ما لم تُقدّم بروح من الشراكة والتواضع.

ومع ذلك، يظل هناك بصيص أمل.
فقد بدأت القيادات الأوروبية تُصغي أكثر إلى أصوات الأوكرانيين، كما أن حصول أوكرانيا على وضعية مرشح لعضوية الاتحاد الأوروبي، وبروز أطر إعادة الإعمار التي تتضمن مشاركة المجتمع المدني، تُعد تطورات إيجابية تعزز من استقلالية القرار الأوكراني.

الأوكرانيون ليسوا سذجاً؛ فهم يدركون ثمن الحرب، ويعرفون حدود الدبلوماسية ومخاطر الاعتماد الزائد على الخارج، لكنهم في الوقت ذاته متمسكون بالأمل. فبالنسبة لهم، أوروبا ليست مجرد ممول، بل رؤية جماعية للسلام والكرامة الحديثة.
وكما قال الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي أمام البرلمان الأوروبي: "نضالنا يهدف إلى ضمان عضوية متساوية في أوروبا. نحن نقاتل من أجل قيمنا. ونحن ننتصر، معاً."

وفي نهاية المطاف، سيُحكم على هذه الحرب ليس فقط بنتائجها العسكرية، بل أيضاً بطبيعة السلام الذي سيعقبها. فهل ستُبنى أوكرانيا بكرامة؟ أم وفق توجيهات خارجية؟
الجواب مرهون بقدرة العالم على التفريق بين التضامن والسيطرة، وعلى إدراك أن الدعم الحقيقي هو ما يمنح الحرية، لا ما يُخضِع.

https://www.middleeastmonitor.com/20250403-between-war-and-hope-ukraines-gratitude-for-european-support-amid-global-rivalries/