بعيداً عن التحليلات العسكرية، وتطوّراتها المرتبطة بكثير من مصالح الدول المنخرطة في الصراع السوري، وتأثيرها في خريطة الشرق الأوسط الجديد أو الكبير، المأمولة، بما يضمن مصالح إسرائيل التي تدعمها الولايات المتحدة والدول الغربية، وتضمن سلاسة تحقيقها في المنطقة الأنظمة العربية وروسيا، وما يعنيه ذلك من تضافر الجهود على تقليص مساحة نشاط إيران وأذرعها في المنطقة، واستثمار ذلك كله في توقيت حيوي يضمن بقاء الأطراف المساندة للنظام السوري على مدرّج المتفرّجين على ما يحدث لقواته العسكرية، سواء لوقت مفتوح، أو لبعض الوقت، بينما يستعيد النظام إدراك حجمه في المعركة الإقليمية، في سياق الأحداث المستجدة في سورية، تجري معركة صامتة أخرى، بطلها "الصمت الشعبي" على الحدث الكبير الذي شهدته حلب وحماه، وربما ستكون حمص اللاحقة، فهل هو قبول أم حياد؟
اللافت للنظر حالة الهدوء التي تسيطر على سكان المناطق التي تدور فيها معارك الحسم للسيطرة عليها، بين فصائل المعارضة بقيادة واضحة لهيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقاً) وجيش النظام الذي تهاوى فجأة وانسحب أنصاره من دون أي مقاومة تذكر، أي إننا أمام مشهد استسلام شعبي لأي قوة حكم واقع تستلم زمام الأمور.
بعد مرور 13 عاماً على بداية الثورة، وما شهدته البلاد خلالها من تغيرات دراماتيكية في مسارات الحرب، أصبح مشهد استسلام الشعب السوري أمام القوى المسيطرة على الأرض أحد أبرز نتائج هذه الصراعات المستمرّة.
وكأن ذلك اعترافٌ بفصل مطالب الثورة الشعبية التي انطلقت عام 2011 حراكاً شعبياً للمطالبة بالحرّية والديمقراطية، عن مسارات العسكرة، وما آلت إليه من صراع مسلح على السلطة، بمشاركة أطراف محلية ودولية.
لقد خرجت إرادة الشعب من معادلة "السلطة" في أي طرفٍ منها، ولم تعد إرادته ومطالبه هي الأساس؛ وهذا ما أدركه الشعب، عندما خضع من جديد لحكم القوى الأمنية التي عادت وتمددت في حلب بعد استعادتها عام 2016، من دون أن يكون هناك تغيير في طبيعة الحكم وآلياته.
أي إن النظام، بعد عودته إلى حكم المحافظة، لم يقدّم للشعب ما يجعله يدافع عن وجوده، أي يتشارك مع قواه العسكرية والأمنية الدفاع عن مناطقه؛ وهو ما يبرّر حالة الاستسلام، وربما الرضا عن أي سلطة بديلة لسلطته، على الرغم من أن تجارب السكّان في مناطق جبهة تحرير الشام والفصائل المسلحة ليست على مستوى طموح ثورتهم ومطالبها.
بعد تحوّل المناطق الخارجة عن سيطرة النظام إلى "كانتونات" محكومة بقوة السلاح، صار سوريون كثيرون ينظرون إلى كل الجهات المسلحة أمراً واقعاً، بما فيها النظام السوري وداعموه من إيران، وروسيا، ومليشيات طائفية، بالتساوي مع الفصائل المعارضة ومليشيا أبو محمّد الجولاني المسلحة، والدول الداعمة لهم.
لهذا اختلطت مفاهيم تحرير المناطق باحتلالها من هذه الجهة أو تلك. ولهذا كنّا نشهد، بين حين وآخر، تظاهراتٍ في مناطق كثيرة ضد القوى الحاكمة، كما حدث في إدلب ومناطق في الشمال، بالزخم نفسه الذي يعيدنا إلى تظاهرات عام 2011 ضد نظام بشار الأسد، ما يعني أن تغيير اسم الجهة الحاكمة للمناطق لا يشير إلى تغيير في نظام حكمها، أو في تقديرها حقوق المواطنة التي يتطلّع إليها سكانها.
لذا يمكن تفسير الهدوء الشعبي بأنه ينبع من إحساسٍ عميق بعدم جدوى المقاومة في ظل موازين القوى العسكرية المسلحة الحالية، فالبقاء على قيد الحياة بأي شكلٍ كان هو الهدف الذي يسعون إليه، حتى لو تطلب ذلك تقبّل واقع جديد، قد لا يتماشى مع تطلّعاتهم في الحرية التي ثاروا من أجلها.
ولهذا لا يمكن النظر إلى الصمت على أنه القبول الكامل أو الرضا عن الأوضاع القائمة، لكنه الرغبة في الخروج من دائرة العنف والدمار المستمر، سواء كنّا نتحدّث عن سوريين تحت حكم الأسد، أو حكم غيره، أي الحياد تجاه أي قوّة تحكمهم بالسلاح.
لذلك قد تتساوى وجهات النظر التي تتعارض أو تتوافق مع مجريات الأحداث الحالية، فلا يعني انتقاد المساندة والتهليل لانتصارات جبهة النصرة والفصائل المعارضة على جيش النظام السوري أنه رغبة في بقاء المناطق تحت سيطرة الأسد، أو أنه تفضيل حكمه على أي قوة مسلحة أخرى، فحيث لا أمل يُرتجى في إصلاح منظومة الحكم، قد لا يكون بقاؤه أفضل من ذهابه، وأن أي تغيير يفتح أفق أوسع لعودة الحراك الشعبي من أجل تحقيق أهدافه في الحرية والديمقراطية وحقوق المواطنة.
لهذا، قد تكون المساندة التي نشهدها من المحسوبين على الديمقراطيين، لهذا التقدم العسكري للمعارضة المسلحة، تحت قيادة جبهة النصرة، منطلقة من أن تحريك الملفّ السوري في أي اتجاه أفضل من ركوده الذي يمكن أن يجعله مجرّد ملفٍّ منسي في أدراج الأمم المتحدة.
وفي كل الأحوال، الوضع الحالي، في أسوأ الأحوال، خطوة نحو تحقيق مقولة أنه "لا ثابت في الوضع السوري، في ظل متغيّرات المنطقة، ومصالح دولها".
ومع كل الملاحظات المسجلة بحق قوى الأمر الواقع، فإن أمام هذه الفصائل فرصة لتجاوز الأخطاء السلطوية، وبخاصة بعد محاولتها تقديم خطابٍ مدروس، بعيد عن الطائفية والعصبية، إلى السوريين والمجتمع الدولي.
إذا تمكّنت من تقديم نموذج جديد للحكم، يضمن الحفاظ على أمان (وسلامة) السكان، بمختلف مرجعياتهم القومية والدينية، ويحمي ممتلكاتهم ومراكز أنشطتهم الاقتصادية، بعيداً عن "التعفيش" والتنكيل والانتقام، الذي اعتاد عليه السوريون خلال سنوات الصراع الطويلة.