أدرك زعيم حماس يحيى السنوار أن المقاومة هي أداة لتحقيق هدف سياسي: إقامة دولة فلسطينية من النهر إلى البحر. ومن المثير للاهتمام أنه لم يؤجل تصور شكل هذه الدولة إلى ما بعد التحرير.
في عام 2021، رعى مؤتمرًا بعنوان "وعد الآخرة: فلسطين بعد التحرير" والذي هدف إلى تقديم توصيات بشأن شكل الدولة الفلسطينية وكيفية التعامل مع قضايا مثل تنظيم عودة اللاجئين ومصير المستوطنين والتعامل مع قوانين الدولة المحتلة والاتفاقيات الدولية المبرمة معها، وغيرها.
وقد دعا المؤتمر إلى إنشاء "هيئة تحرير فلسطين"، وهي عبارة عن مجموعة من القوى الفلسطينية والعربية التي "تتبنى فكرة تحرير فلسطين" وتكون مسؤولة عن تنسيق جهود القوى.
وكان هذا قبل أن يرى السنوار تبلورًا أعمق لرؤيته لفلسطين الغد أو تشكيل هيئة تنسيقية لدفع هذه الرؤية إلى الأمام؛ والحاجة إلى هذين الأمرين حاسمة اليوم.
مراجعة بعض توصيات المؤتمر يمكن أن تساعد في فتح نقاش بين الفلسطينيين والعرب المتحالفين نحو مواءمة الرؤية السياسية والخطوات العملية لتشكيل هيئة تنسيقية لتحرير فلسطين.
توصيات المؤتمر
"الاحتلال" هو في جوهره نظام سيطرة مفروض على مجتمع من خارجه.
و"التحرير" هو مشروع لتفكيك هذا النظام واستبداله بنظام يعبر عن تطلعات السكان الأصليين.
وعلى مر التاريخ، كانت لحركات التحرر الوطني رؤى لمستقبل مجتمعاتها - شكل الدولة بعد التحرير؛ وتأتي توصيات المؤتمر في هذا الإطار.
على سبيل المثال، أوصى المؤتمر بأنه: "يجب التدرُّج في إعادة اللاجئين الفلسطينيين، وبالتنسيق مع الدول المضيفة للاجئين سابقاً، وفتح أماكن استيعاب مؤقتة قريبة من الحدود المحاذية لهم، يتم خلال هذه الفترة المؤقتة توثيقهم في السجل المدني وإصدار بطاقات هوية، وتطبيق قانون العودة بحقهم".
ماذا عن مصير المستوطنين بعد التحرير؟ أوصى المؤتمر: "يجب التمييز في معاملة اليهود المستوطنين في أرض فلسطين، ما بين محارب، يجب قتاله، وهارب يمكن تركه أو ملاحقته قضائيًّا على جرائم، أو مسالم مستسلم، يمكن استيعابه أو إمهاله للمغادرة، وهي قضية تستحق إمعان النظر وتقديم الروح الإنسانية التي اتسم بها الإسلام دوماً".
وفيما يتعلق بالتشريعات أوصى المؤتمر: "العمل بالقوانين التي كانت سارية المفعول قبل إقامة الدولة المستقلة كل في مكان نفوذها المكاني طالما أنّها لا تتنافى والمبادئ المشتملة عليها وثيقة إعلان دولة فلسطين أو تتعارض والقوانين التي ستسن وتقر من الجهات المختصة بالتشريع في فلسطين في المرحلة الانتقالية أو ما بعد المرحلة الانتقالية لحين توحيد التشريعات في فلسطين، لأن زوال الدول لا يعني زوال الاثار القانونية والقانون لا يلغ ولا يعدل إلا بقانون آخر".
وجاء في القرار: "مصير الاتفاقيات الدولية الموقعة من طرف الاحتلال أو السلطة الفلسطينية يتعلق بإرادة دولة فلسطين حال التحرر، في ضوء أن الظروف التي كانت سائدة خلال فترة احتلال فلسطين ليست كالظروف التي بعدها، وهنا يمكن النظر إلى تلك الاتفاقيات من زاوية أخرى حال اتجهت إرادة الدولة إلى التحلل من تلك الالتزامات التي أنشأتها الاتفاقيات الدولية وهي قاعدة تغير الظروف التي نظمتها اتفاقية فينا لعام 1969 من قانون المعاهدات".
لجنة تحرير فلسطين
كانت التوصيات الثلاث الأولى المتعلقة بلجنة تحرير فلسطين متميزة في أنها تتعلق بشكل أساسي بعملية التحرير نفسها.
وطالبوا بـ: "تشكيل لجنة تحرير فلسطين من كل القوى الفلسطينية والعربية التي تتبنى فكرة تحرير فلسطين، ويساندها تحالف من الدول الصديقة".
وحددوا مسؤوليتها بـ: "وضع خطة تستغل طاقات الأمة، وتوزيع الأدوار على مكوناتها كل حسب إمكانياته".
وأظهر العام الماضي الحاجة إلى هذه الهيئة التنسيقية، إذ بات واضحاً أن التنسيق شبه غائب بين القوى التي تتبنى تحرير فلسطين، سواء في مجالات الحرب السردية، أو المقاومة المسلحة، أو العمل الإعلامي، أو المقاطعة، أو العمل المباشر، أو العمل القانوني، أو غير ذلك، مما أدى إلى هدر الطاقات، وإضاعة الفرص، وتفتيت الخطاب.
على سبيل المثال، ردت حماس على اتهام العدو لها بـ "استهداف المدنيين"، الحجة الرئيسية التي استخدمتها لتبرير جرائم الإبادة الجماعية، بعدة أشكال، وخاصة وثيقة "روايتنا.. عملية طوفان الأقصى؟" التي أكدت موقف الحركة القائل بأن: "تجنب المساس بالمدنيين، وخاصة الأطفال والنساء وكبار السن، هو التزام ديني وأخلاقي على جميع مقاتلي كتائب القسام".
وأكدت أن "المقاتلين الفلسطينيين في السابع من أكتوبر لم يستهدفوا إلا جنود الاحتلال ومن حمل السلاح ضد شعبنا وحرصوا على تجنب إيذاء المدنيين"، موضحة أن مدنيين صهاينة (مستوطنون) قُتلوا إما على يد جيش الاحتلال أو على يد فلسطينيين غير منظمين أو أثناء تبادل إطلاق النار.
ومع ذلك، لم يُبذل أي جهد تقريبًا لنقل هذه الرسالة إلى الحكومات والمسؤولين السياسيين والحركات السياسية والمنظمات اليهودية المناهضة للصهيونية ووسائل الإعلام التقليدية وغير التقليدية وحركات التضامن والناشطين وغيرهم.
ورغم أن ملف "روايتنا" تُرجم إلى عشر لغات، فإن العبرية لم تكن واحدة منها، ولم يُبذل أي جهد لنقل روايتنا إلى الصهاينة.
حتى مقاطع فيديو المقاومة باللغة العبرية لم تُسلَّم إلى المستوطنين الصهاينة.
رفض قادة حماس مثل أسامة حمدان أو موسى أبو مرزوق، وقادة الجهاد الإسلامي مثل محمد الهندي، مرارًا وتكرارًا مفهوم "تطهير فلسطين من اليهود" وذكروا بشكل لا لبس فيه إمكانية بقاء المستوطنين الصهاينة السابقين كمواطنين فلسطينيين متساوين بعد التحرير؛ وهذا يتفق مع توصيات المؤتمر المذكورة أعلاه والموقف التاريخي لحركة التحرير الفلسطينية.
ومن المؤسف أن هذه الرؤية لم يتم نشرها سواء للمستوطنين في فلسطين أو للعالم الخارجي؛ وهذا جعل من السهل على الاحتلال الصهيوني أن يدق طبول الحرب بين المستوطنين، ويصور العملية العسكرية في 7 أكتوبر على أنها هجوم على اليهود، ويستنتج أن اليهود لم يكن لديهم خيار سوى إبادة الفلسطينيين استباقيًا.
كما سمحت هذه الفجوة في خطاب التحرير لحلفاء المستعمرة في أوروبا وأميركا الشمالية بتصوير تعبيرات مثل "فلسطين الحرة" أو "من النهر إلى البحر" للإشارة إلى ترحيل وإبادة اليهود.
ولم تبذل المقاومة الفلسطينية أي جهود تقريبًا لتحدي حرب السرد التي يشنها العدو وتزويد الحلفاء في الخارج بأي توجيهات بشأن هذا الموضوع.
وفي الوقت نفسه، سمح غياب خطاب التحرير الواضح بتخفيف القضية الفلسطينية من خلال تصويرها كمطلب مجرد بالمساواة في الحقوق أو إنهاء الفصل العنصري، أو من خلال الدعوة إلى مقترحات تستوعب الصهيونية مثل الدولتين أو ثنائية القومية.
اغتيل السنوار، لكن الحاجة إلى هذين الهدفين لا تزال قائمة:
أولاً، من خلال تركيز خطاب التحرير الفلسطيني على رؤية واضحة لدولة فلسطينية واحدة لجميع مواطنيها.
وثانيًا، من خلال تشكيل هيئة تتبنى هذه الرؤية وتنسق الجهود بين القوى التي تتبناها.
ومع ذلك، لن تتحقق هذه الأهداف ذاتيًا بشكل معجزة؛ إن الفلسطينيين وحلفاء الكيان الصهيوني وأولئك الذين يتوقون إلى فلسطين الحرة في جميع أنحاء العالم مدعوون إلى العمل من أجل تحقيق ذلك.