مثّلت عودةُ دونالد ترامب رئيساً للولايات المتحدة مفاجأةً مذهلةً لمتابعي الشأن الأميركي، فضلاً عن الساسة والدوائر الرسمية في دول كثيرة.
هذا على مستوى التوقّعات، وعلى مستوى التمنّيات، قليلون كانوا يتمنّون فوزه بفترة رئاسة ثانية للولايات المتحدة، بسبب أدائه الشعبوي في ولايته الأولى، وطابع المفاجأة والتحوّلات الراديكالية، وغياب القابلية للتوقّع في أيّ من سياساتها، الداخلية أو الخارجية.
الأمر الذي جعله رئيساً "غير مرغوب فيه" على نطاق واسع في معظم الدول، سواء بين الساسة أو العوام.

والاستثناء من هذا الرأي السائد تجاهه، هو تلك الثلّة من الحكّام والنُّخَب المحيطة بها في بعض دول العالم الثالث، ذات الحكم الاستبدادي، وبصفة خاصّة حكم الفرد ذي الشخصية العُصابية، الذي لا يسمع لأحد غير نفسه ولا ينظر إلا إليها.
وهؤلاء حصراً تغمرهم السعادة حالياً باستعادة ترامب مفتاح البيت الأبيض، لما يعنيه ذلك عندهم (على الأقلّ في نظرهم) من استئناف إعمال منطق القوة والجبر في السياسة الأميركية الخارجية خصوصاً. أي إعمال منطق التجارة والأعمال، الذي يشكّل جوهر عقل ترامب، ليس لأدائه العام فقط، لكن أيضاً لطباعه الشخصية؛ أو بعبارة أكثر وضوحاً ومباشرة تفعيل قاعدة "لا شيء إلّا بثمن".

ما لا يدركه هؤلاء أن ولاية ترامب الثانية لن تكون مطابقة للأولى، بل قد تختلف كثيراً عنها. فقد خبر ترامب ردّات الفعل على اندفاعاته، والتغذية المرتدّة لقراراته الحادّة، كما أنه أمسى أكثر خبرةً وإحاطةً بمقتضيات اللعبة السياسية، وما تتطلّبه إدارة العلاقات بين الدول من حنكة، ومن درجات متعدّدة من التفاهمات والتنازلات، وأن منطق المباريات الصفرية لا يصلح في التعاطي مع الشعوب والقضايا والمشكلات التي لا تحلّ بصفقة أو برفع الثمن.
وليس أدلّ على ذلك ممّا حدث في الشرق الأوسط، وانفجار المقاومة الفلسطينية ضدّ الاحتلال الصهيوني، في حدث جلل جدير بوصف "الطوفان"، ثم ما تبعه من صمود أسطوري للشعب الفلسطيني الأعزل ما يزيد عن عام.

وفي النطاق العالمي، ينوي ترامب إنهاء الحرب الروسية الأوكرانية على نحو عاجل، من دون التطرّق إلى ما يتطلّبه ذلك من إجراءات وترتيبات، ليس مع موسكو فقط، وإنّما بالأساس مع دول غربية، خصوصاً المنضوية في الاتحاد الأوروبي أو أعضاء حلف شمال الأطلسي (ناتو).

كان سلوك ترامب وأداؤه البعيد عن الانضباط والرصانة، كفيلاً بإثارة حفيظة المؤسّسات الرسمية والرقابية، فضلاً عن الأجهزة الأمنية والاستخبارية. وعانى ترامب نتيجة تلك الأصداء السلبية كلّها ملاحقات قضائية، لا يزال بعضها مفتوحاً.
وهو بات يدرك جيّداً أنه إن نجا من الإدانة القضائية، فإن السمعة السيئة التي اكتسبها ستظلّ تلاحقه، وستكون أعين القضاء والإعلام وأجهزة الأمن تتابعه من قرب، بتركيز شديد.

سيجري دونالد ترامب جردة حساب لحصاد رئاسته الأولى، خصوصاً في ما يتعلّق بالسياسة الخارجية الأميركية ومردوداتها على مصالح واشنطن وأهدافها في أقاليم العالم.
وربّما يعقد ترامب مقارنةً بين ولايته الأولى وفترة رئاسة جو بايدن. خصوصاً في القضايا المهمّة والمستمرّة خلال الفترتَين، مثل الملفّ الإيراني ومسار التسوية في الشرق الأوسط ومآلات التطبيع الصهيوني العربي، وكذلك ما يخص المنافسة (المحتدمة) مع الصين اقتصادياً واستراتيجياً.

لكن ذلك كلّه لا يعني أن ترامب الثاني سيكون مختلفاً كلّيةً عن ترامب الأول، فالطبع يغلب التطبّع، كما أن الأثر النفسي والسياسي لاستمرار ترامب في الساحة السياسية الأميركية، رغم ما تعرّض له من مآزق ومشكلات، يمثّل عنده قوّةَ دفعٍ هائلةً للاستمرار في نهجه وطريقته.
وربّما فقط ينجح المحيطون به، ومستشاروه، في ترشيد اندفاعه وتجنيبه الوقوع في أخطاء قانونية أو مخالفات كفيلة بتعريضه لملاحقات قضائية جديدة.