إعلاميًا، أُقصيت غزّة ولبنان إلى هامش الهامش، إذ تحوّلتا إلى فاصلٍ سريع يمرّ خاطفًا بين فقرات الكرنفال الهوليوودي، المُعاد حدّ الملل، المُقام على جانبي مشهد انتخابات الرئاسة الأميركية، إصرار الفضائيات العربية على استمطار سحب الشغف الإجباري بالسباق فوق رأس المشاهد العربي بدا مستفزّاً لقطاعاتٍ لا يُستهان بها، جرى اختطافها عنوًة من أخبار القتل اليومي في فلسطين ولبنان، أكثر من ستين شهيداً في غزّة خلال الساعات الأولى من نهار سينما الانتخابات الأميركية، وصرخات المراسلين على منصّات التواصل الاجتماعي، بعد أن ضاقت بهم مساحات البث التلفزيوني المباشر، ذهبت أدراج رياح معركة الأحمر والأزرق.
يُطلق مدير مستشفى كمال عدوان شمالي غزّة حسام أبو صفية نداءه أخيراً قبل اكتمال الكارثة: "قد تكون هذه دعوتنا الأخيرة للمساعدة، قرّرت إسرائيل إعدام جميع الموظفين الذين يرفضون إخلاء المستشفى" ولا مجيب، ثم يصرخ مراسل قناة الجزيرة الباسل في غزّة، أنس الشريف، على منصة إكس "وصلتني شهادات مؤلمة عن عائلات لم تأكل منذ أسابيع وتعيش على الماء والملح فقط.
الأهالي في شمال غزة محاصرون منذ شهر، بلا ماء أو غذاء أو دواء. اليوم، من لم يمت بالقصف، يواجه شبح الموت جوعاً".
لكن من يسمع وضجيج موسيقى رقصة الحمار والفيل يصادر حاسة السمع العربية لحسابه، ومعها كذلك حاستا الشم والذوق.
طوال شهور سبقت عملية الاقتراع، كان السؤال المطروح على المتابع العربي: أيهما أفضل للعرب ولفلسطين، كامالا هاريس أم دونالد ترامب؟ ومع الأيام الأخيرة قبل الحفل، اشتعل السؤال أكثر فتحوّل إلى رمادٍ من الوصاية الإعلامية والثقافية بترويج أحدهما والتحريض ضدّ الآخر، وهي ثنائية مُقحمة تكرّس نوعاً من التبعية المزدوجة: تبعية المروّج والمحرّض فكريّاً لهذا العرض الانتخابي المبهر، وافتراض تبعية المتابع العربي العادي لمن أعطى نفسه سلطة التوجيه والإرشاد، وكأنّ الدم العربي المسفوك بالسلاح الأميركي، والمهدور بالغطاء السياسي الأميركي، سوف يتوقف عن النزف حال انتخاب هذا المرشّح أو ذاك، على الرغم من اختبار هذه الفرضيات العجيبة في عدّة انتخابات مضت، وفشلها جميعاً في صناعة مقاربةٍ أميركية جديدة أو مختلفة من قضية فلسطين، إذ يبقى القرار الأميركي في المسألة ثابتاً استراتيجيّاً لا يهتز بتغيّر اللون من الأحمر إلى الأزرق، أو العكس، إذا تتحوّل الولايات المتحدة حيال هذا الأمر إلى دولة عالم ثالث أو أقل، مقطوعة الصلة تماماً بما تصدّره للعالم من ديمقراطية، لا تصلح للاستخدام إلا داخلها، وقيم حقوق إنسان لا تعترف بها إلا للإنسان الغربي، وكذا الإسرائيلي.
والحال كذلك، يبدو الشغف بالمشهد الأميركي اصطناعيّاً تماماً، وكأنه جزءٌ من العرض نفسه، يتكرّر في كلّ مرة، من المهتمين بشدّة، واللامبالين بإمعان، حتى الإلحاح على التعبير عن هذه اللامبالاة يبدو هو الآخر من مكملات الإبهار، حتى مسوّغات الاهتمام وحجج العزوف تبدو مكرّرة هي الأخرى، وأذكر أنّه في معركة بايدن/ ترامب قبل أربع سنوات بالنسبة لشخصٍ مثلي، عاصر عشرة انتخابات رئاسية أميركية على الأقل، شهدت صعود ديمقراطيين وهبوط جمهوريين، والعكس، من دون أن يُحدث ذلك تأثيراً عميقاً في قضايانا العربية، فإنّ الشغف بالمعركة بين ترامب وبايدن جاء أقلّ بكثير ممّا سبق.
وقتها قلت إنّه صحيحٌ أنه لا يوجد أسوأ من دونالد ترامب على ظهر الأرض، ومؤكّد أنّ العالم صار أقلّ إنسانية وأكثر وحشية وانحطاطاً في السنوات الأربع التي حكم فيها، وانفرد فيها ذلك التاجر الصفيق بإدارة الكوكب، إلا أنه ليس من المؤكّد أنّ معضلات العرب، بوصول جو بايدن إلى السلطة، سوف تعرف طريقها إلى الحل، ذلك أنه ملتزمٌ على نحو أكثر صرامة بالانحياز للكيان الصهيوني.
الأمر ذاته يمكن تطبيقه على حالة هاريس/ ترامب مدعومًا بحصاد تجربة الديمقراطي الناعم بايدن وإدارته، وعلى نحو خاص ما يرتبط بقضيتي الديمقراطية وفلسطين، وهما القضيتان اللتان تراجعتا بشكل فادح، وليس منتظراً حصاداً أفضل، مع هاريس أو ترامب.
وبالرجوع إلى المناظرة الوحيدة بين الديمقراطية المبتسمة والجمهوري العابس كان موضوع النزال هو من الأشد ولاءً لإسرائيل والأقدر على تأمينها والدفاع عن وجودها، مع اختلاف الأسلوب.
وبالعودة إلى سؤال أيّهما أفيد أن نكون مع الديمقراطيين أم مع الجمهوريين، فالإجابة الوحيدة الصحيحة أن نكون مع أنفسنا، أن نكون مع فلسطين ولبنان وكلّ بلد عربي في مرمى العدوان الإسرائيلي الأميركي.