كان حلم الطالبة ميرنا الجنيدي أن تصبح طبيبة. ساعدتها أسرتها في الالتحاق بكلية الطب بجامعة الجلالة. اقترب الحلم من الاكتمال، لكن في لحظة انهار كل شيء. أصبحت الطالبة في الفرقة الأولى رقمًا في بيان النيابة العامة ضمن ضحايا حوادث الطرق، مجرد جثة يزفها أهلها إلى مثواها الأخير. ميرنا واحدة من 12 طالبًا وطالبة توفوا في حادث أتوبيس على طريق الجلالة، بينما أصيب 29 آخرون أثناء عودتهم من الجامعة إلى محل سكنهم. جاء الحادث ليجدد الجدل حول جودة شبكة الطرق والكباري التي عملت عليها الحكومات المتعاقبة منذ 2014، سواء بإنشاء طرق ومحاور جديدة أو بتجديد وتوسعة القائم منها، وهو ما يعتبره النظام واحدًا من أهم إنجازاته. حوادث سابقة واستجابة حكومية بعد ثلاثة أشهر فقط من تولي قائد الانقلاب عبد الفتاح السيسي كرسي الرئاسة للمرة الأولى في نوفمبر 2014، توفي 18 طالبًا وأصيب 16 آخرون في حادث تصادم حافلتهم بسيارة نقل بنزين في محافظة البحيرة. حينها جاء الرد الرئاسي سريعًا بتكليف الحكومة بوضع خطة عاجلة لمنع وقوع حوادث الطرق، وتشديد العقوبات على المخالفين لقانون المرور، والتطبيق الصارم لمواده، خاصة على الطرق السريعة. وأُعلن بعدها العمل على تنفيذ المشروع القومي للطرق بطول 7000 كم وبتكلفة 175 مليار جنيه، ليتجاوز إجمالي أطوال شبكة الطرق السريعة والرئيسية 30 ألف كيلومتر بعدما كانت 23.5 ألف كيلومتر في يونيو/حزيران 2014. ومن بين الطرق الجديدة التي أُنشئت ضمن المشروع طريق الجلالة، الذي نفذته الهيئة الهندسية بطول 82 كيلومترًا بتكلفة 4.5 مليار جنيه، وتصفه صحف الشركة المتحدة بأنه معجزة و"إنجاز هندسي"، و"أبهر العالم"، كونه نُفذ خلال عامين فقط، رغم أنه "من أصعب مهام الإنشاءات الهندسية" نتيجة لما احتاجه من شق الجبل وتفتيت الصخور. لكن الدعاية الحكومية لإنجازات الجمهورية الجديدة أغفلت أن الطريق "المعجزة" يشهد نحو 50 حادثًا سنويًا، رغم وجوده في المرتبة الثامنة ضمن ترتيب مدى خطورة طرق محافظة السويس، وفقًا لنشرة حوادث الطرق الصادرة عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء. إحصاءات مرعبة حسب النشرة السنوية لنتائج حوادث السيارات والقطارات لعام 2023، الصادرة عن الجهاز في مايو/أيار الماضي، ارتفع عدد الإصابات الناتجة عن حوادث الطرق لأكثر من 71 ألف إصابة، مقابل نحو 56 ألفًا عام 2022، بنسبة ارتفاع وصلت إلى 27%. فيما انخفضت نسبة الوفيات، ففي عام 2023 توفي 5861 شخصًا جراء حوادث الطرق بينما في 2022 توفي 7762 شخصًا، بانخفاض 24.5%. إلا أن هذا الانخفاض يُعزى إلى عدم إرسال محافظتي الأقصر وبورسعيد بيانات عن المصابين أو الوفيات، نتيجة لانضمام مستشفياتهما إلى منظومة التأمين الطبي الشامل. طرق جديدة بحوادث كثيرة مع وقوع حادث الجلالة الأخير، أُعيد طرح تساؤلات حول ما إذا كانت السرعة التي نُفذت بها الطرق جاءت على حساب المعايير الفنية، أم أنه مجرد حادث عابر يمكن أن يقع في أي مكان في العالم. وفقًا للبيانات المستخلصة من نشرة حوادث الطرق، يوجد 139 طريقًا في مصر صنفها جهاز التعبئة العامة والإحصاء أكثر الطرق خطورة، مع وجود 269 نقطة عالية الخطورة موزعة على هذه الطرق، يتصدرها طريق مصر-الإسكندرية الزراعي من حيث عدد النقاط، يليه طريق طنطا-المنصورة، ثم طريق القاهرة-الإسكندرية الصحراوي، ثم الطريق الدولي الساحلي. الأزمات داخل العاصمة انتقلت أزمة الطرق السريعة إلى داخل العاصمة، خاصة شرق القاهرة التي شهدت تطويرًا يهدف إلى تيسير الوصول إلى العاصمة الإدارية الجديدة. تشير بيانات حوادث السيارات إلى أن القاهرة تسجل أعلى معدلات وفيات ناتجة عن حوادث الطرق، وتمثل نسبة 12.2% من إجمالي حالات الوفاة على مستوى البلاد. أُنشئ خلال العقد السابق عدد كبير من المحاور في شرق القاهرة، منها محور الفريق العصار، بطول 18 كم، الذي تضمن إنشاء ثمانية كباري بجانب أعمال متعددة لتوسعة الطرق، بالإضافة إلى محاور أخرى مثل جوزيف تيتو والفردوس وروكسي رمسيس. الشوارع الأكثر خطورة الغريب أنه، وبحسب بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، صنف شارع جوزيف تيتو في حي النزهة بشرق القاهرة أخطر الطرق من حيث معدلات الحوادث على مستوى الجمهورية، حيث يشهد أكثر من 7 حوادث يوميًا. كما تحدد البيانات المناطق الخطرة في شوارع العاصمة، من بينها المنطقة الممتدة من كوبري الجلاء حتى عمارات العبور، التي تشهد نحو 1460 حادثة سنويًا. حوادث مرورية وتحديات وبحسب بيان النيابة العامة حول حادث أتوبيس الجلالة، كان سائق الأوتوبيس "يسير بسرعة هائلة حال مروره بمنعطف منحدر فاختلت عجلة القيادة وانقلبت الحافلة"، مشيرًا إلى أنه "بإجراء التحليل المبدئي له تبين تعاطيه جوهرًا مخدرًا".
ووفقًا لدكتور أحمد المحمدي، أستاذ هندسة الطرق بجامعة عين شمس، فإن نحو 70% من حوادث الطرق سببها العنصر البشري. بينما يُحمل الباحث والمصمم العمراني أحمد زعزع العنصر البشري جزءًا من المسؤولية، ولكنه يؤكد أن عدم كفاية البنية التحتية أيضًا تلعب دورًا رئيسيًا في هذه الكوارث. عوامل الخطورة تؤكد منظمة الصحة العالمية أن هناك تسعة عوامل تمثل خطرًا على الطرق، على رأسها ما يسمى "نهج النظام المأمون" الذي يأخذ في الاعتبار احتمالات الخطأ البشري. كما تعتبر السرعة واحدة من عوامل الخطر، حيث توجد علاقة مباشرة بين الزيادة في السرعة واحتمالات وقوع الحوادث ومدى خطورة العواقب. تتضمن هذه العوامل أيضًا القيادة تحت تأثير الكحول، عدم ارتداء خوذات الدراجات النارية وأحزمة الأمان، ووجود عيوب في صيانة المركبات. الحاجة إلى تحسين البنية التحتية يشير الدكتور المحمدي إلى أنه رغم التطوير الذي شهدته شبكة الطرق، فإن الكثير من العيوب ما زالت موجودة، مشيرًا إلى التقارير التي أظهرت عيوبًا فنية في 45% من الكباري التي أُنشئت حديثًا، مما يؤكد الحاجة الملحة لتشديد أنظمة الرقابة وتحسين جودة التنفيذ. الحلول المطروحة يتفق المحمدي وزعزع على أن الحل العاجل هو تشديد أنظمة الرقابة على الطرق وتنفيذ القانون، فيما يسعى أهالي ميرنا وزملاؤها في جامعة الجلالة لضمان عدم تكرار الكارثة والعمل بشكل جاد على ضمان سيرهم على طرق آمنة.