نشرت مجلة ذي إيكونوميست في سبتمبر 2023 تحقيقاً مطوّلاً يكشف كيف أصبحت دول كثيرة أكثر جرأة في اغتيال خصومها في الخارج، وأن الدول ذات النفوذ الصاعد في الجنوب أصبحت لا تتردّد في التعبير عن قوتها خارج حدودها، بتعقّب خصومها ومعارضيها على أراضي الدول الغربية.

نشر التحقيق ردّة فعل على واقعة اغتيال الناشط الكندي من أصل هندي، هارديب سينغ نيجار، بالرصاص خارج معبد سيخي في مقاطعة بريتش كولومبيا في كندا في يونيو 2023. كان الرجل قيادياً بارزاً في حركة انفصالية في ولاية البنجاب الهندية. أثارت حادثة الاغتيال توتراً دبلوماسياً بين كندا والهند، حيث أكد رئيس الوزراء الكندي، جاستن ترودو، وجود مؤشّرات إلى تورّط الحكومة الهندية في عملية الاغتيال.

وكانت روسيا قد أقدمت في نوفمبر 2006 على اغتيال عميل المخابرات الروسي المنشق، أليسكندر ليتفينكو، في لندن بتسميمه بمادّة مشعة، وشهد هذا العام الذكرى السادسة على التصفية الوحشية للكاتب والمعارض السعودي جمال خاشقجي في القنصلية السعودية في إسطنبول.

دفعت هذه الوقائع الجمعية البرلمانية التابعة لمنظمة مجلس أوروبا إلى نشر تقرير في يونيو 2023 عن التهديد المتزايد للقمع العابر للحدود على الأراضي الأوروبية، والذي تنفذه دول مثل روسيا وتركيا وأذربيجان وروسيا البيضاء ضد معارضيها على الأراضي الأوروبية.

وقد رصدت "هيومن رايتس ووتش" أنشطة مشابهة قامت بها الجزائر والصين وكازاخستان، وإيران، وطاجيكستان، وتركمانستان، والإمارات، ورواندا، وتايلاند، وجنوب السودان، وإثيوبيا. وقد أصدرت الجمعية البرلمانية، عقب صدور هذا التقرير، قراراً يطالب الدول الأعضاء في مجلس أوروبا باتخاذ إجراءاتٍ صارمة لحماية النشطاء والمعارضين اللاجئين على أراضيها من أنماط الملاحقات والاعتداءات وأنشطة المراقبة.

وفي تقرير شامل صدر قبل أيام في باريس كشف المنبر المصري لحقوق الإنسان والجبهة المصرية لحقوق الإنسان، بالشهادات والوثائق، عن أنماط استهداف الناشطين الحقوقيين المصريين المقيمين في البلدان الأوروبية والولايات المتحدة وتركيا وتونس لإضعاف نشاطهم وردع غيرهم من المصريين عن الانضمام لأنشطة معارضة خارج البلاد، التي تشمل التهديد بالقتل والخطف، وإصدار أحكام غيابية بالسجن أو التحقيق، وتوجيه اتهامات ضد بعضهم في قضايا ذات طابع سياسي، وتتعلق بالممارسة السلمية في الحقّ في حرية الرأي والتعبير، والحرمان التعسّفي والمنهجي من الحصول على الخدمات القنصلية، عبر منع إصدار بطاقات الرقم القومي، وشهادات ميلاد لهم ولأبنائهم، وإصدار جوازات السفر المصرية وتجديدها.

كما تتضمّن تلك الأدوات تجميد وضعية بعض الحقوقيين البارزين في السجل المدني داخل البلاد لحرمانهم من الحصول على وثائقهم الثبوتية، ووضع حقوقيين مقيمين خارج مصر على قوائم الإرهاب، وترويع أفراد من أسر الحقوقيين المقيمين داخل مصر، وتعقّب أنشطة الحقوقيين في دول إقامتهم ومراقبتها، وتعرّض ناشطين ومنظماتهم للاستهداف الرقمي، من خلال برامج المراقبة والتجسس.

ليس تعقّب المعارضين عبر الحدود ظاهرة جديدة؛ ففي عقدي السبعينيات والثمانينيات، وفي إطار ما يعرف بـ"العملية كوندور"، ارتكبت الأنظمة العسكرية في دول أميركا الجنوبية والوسطى، مثل تشيلي، والأرجنتين، والبرازيل، وبيرو، والأورغواي، وباراغواي، وبوليفيا، آلاف الجرائم الجسيمة ضد إعلاميين وحقوقيين وسياسيين ودبلوماسيين سابقين في أنحاء مختلفة من القارّة الأميركية، وداخل الولايات المتحدة.

وبحسب مصادر كثيرة، تعاونت المخابرات المركزية الأميركية مع تلك الأنظمة العسكرية في تنفيذ هذه الخطّة للتخلص من المعارضين اليساريين في سياق الحرب الباردة مع الاتحاد السوفييتي. وتكشف عودة القمع العابر للحدود في العقد الأخير عن ثقة الدول السلطوية في تنفيذ أفعالها وتبريرها، بالتزامن مع اضمحلال القيادة الأوروبية والأميركية لنظام حقوق الإنسان، وقدرة الدول التسلطية على تهديد معارضيها واستهدافهم داخل أراضيهم من دون محاسبة.

تستند هذه الدول أيضاً إلى ازدواجية معايير الدول الغربية، واستخدام بعضها، مثل الولايات المتحدة، أساليب متشابهة في مرحلة ما بعد هجمات 11 سبتمبر (2011) لاختطاف، وأحياناً تصفية، الإرهابيين المشتبه فيهم خارج القانون، فضلاً عن التوسّع في إدراج كثير من الأشخاص والهيئات في قوائم الإرهاب من دون ضمانات قانونية.

ويبدو أن الفرصة سانحة في هذه الأوقات لدول عربية للتوحش في التعامل مع معارضيها داخل حدودها وخارجها، بالتزامن مع استمرار تدهور الأوضاع الأمنية الإقليمية، نتيجة استمرار العدوان الإسرائيلي في غزّة ولبنان، والمواجهات الإسرائيلية الإيرانية، واستمرار الفشل السياسي والأخلاقي الدولي والعربي في وقف النزيف الإنساني في فلسطين ولبنان.