يكاد لا يخلو خطاب حكومي في مصر مؤخراً من الحديث عن الأعباء والتكاليف التي تتحملها الحكومة نيابة عن الشعب، حتى ليخيل لي أنه لو زارنا كائن فضائي لا يعرف شيئاً عن أنظمة الأرض، لاعتقد أن الحكومة المصرية كيان خيري يتفضل على الشعب بكرم حاتمي. تبدو الحكومة وكأنها تحمل عبئًا ثقيلًا يتوقع منها الشعب أن تتحمله بدون أي رد للجميل. رؤية خاطئة عن الدولة تظهر هذه التصريحات المتكررة خللاً في فهم المسؤولين لماهية الدولة وعلاقتها بالشعب. إن منطق الدولة يختلف تماماً عن منطق الشركة، فهي ليست مؤسسة تسعى إلى الربحية أو تحقيق نقطة التعادل المالي، بل هي وكيل عن الشعب، مسؤولة عن تقديم الخدمات الأساسية التي لا يمكن للقطاع الخاص تحملها، ولكن يبدو أن الحكومة المصرية تتبنى عقلية تاجر لا يريد سوى تقليص التكاليف، بغض النظر عن الأضرار الاجتماعية والاقتصادية التي قد تنتج. مصر ليست شركة إن الفرق بين إدارة دولة وإدارة شركة ليس في المبادئ الأساسية فقط، بل في ترتيب الأولويات وتحديد الأهداف. الحكومة ليست كياناً مستقلاً يخص فئة معينة، بل هي وكيل عن الشعب، ويجب أن يكون هدفها تحقيق رفاهية المجتمع ككل. كما أن حسابات الربح والخسارة لا يجب أن تكون المقياس الوحيد لنجاح السياسات الحكومية، خصوصًا في مجالات مثل التعليم والصحة والبنية التحتية. في مصر، يظهر أن الحكومة تخلت عن دورها كحامية للمجتمع واتجهت لتصبح "شركة" تسعى إلى تقليل التكاليف بأي ثمن، حتى ولو كان ذلك على حساب التعليم والصحة. تدل هذه السياسة على ضيق أفق اقتصادي وفهم محدود للأبعاد الحقيقية التي يجب أن تتحملها الدولة في تنمية المجتمع. الركود الاقتصادي والحلول قصيرة الأجل في ظل الركود الاقتصادي الحالي، أصبحت سياسات الحكومة المصرية أكثر ضيقًا وتركز على القضايا المالية فقط، بغض النظر عن التأثيرات الاجتماعية والاقتصادية الأوسع. من خلال تبني سياسات تقشفية صارمة، وتخفيض الإنفاق على الخدمات الأساسية، تبدو الحكومة وكأنها تنظر إلى البلد كـ"شركة" تهدف إلى تحقيق توازن مالي قصير الأجل، حتى لو كان ذلك على حساب المواطنين ومستقبلهم. الديون المتزايدة وعبء خدمة الديون تعد خدمة الديون المتزايدة واحدة من أبرز تجليات هذه الرؤية المحاسبية الضيقة. تستحوذ مدفوعات الفوائد على الديون على جزء كبير من الميزانية العامة، مما يضغط على القطاعات الحيوية مثل التعليم والصحة. هذه الديون ليست مجرد مشكلة مالية، بل تعكس أزمة هيكلية تتجلى في سياسات استدانة غير رشيدة، وفشل في تحقيق نمو اقتصادي متوازن. الحكومة تبدو غير قادرة على تقديم حلول استراتيجية طويلة الأجل. فبدلاً من معالجة جذور الأزمة المالية من خلال إصلاح النظام الضريبي أو تحسين إدارة الإنفاق العام، تلجأ الحكومة إلى بيع الأصول الوطنية أو تخفيض الدعم عن الخدمات العامة، وهي حلول قصيرة الأجل تزيد من الأعباء على المواطنين وتقلل من فرص النمو الاقتصادي المستدام. بيع الأصول الوطنية أحد الحلول التي لجأت إليها الحكومة هو بيع الأصول الوطنية، مثل صفقة رأس الحكمة التي وفرت للحكومة احتياطات نقدية، لكنها فتحت الباب أمام تفاقم الأزمة الاقتصادية في المستقبل. بيع الأصول العامة قد يوفر حلاً مؤقتًا، لكنه ليس حلاً مستدامًا، بل قد يؤدي إلى تفاقم الأوضاع المالية على المدى الطويل. هذه السياسة توضح كيف أن الحكومة تتخلى عن دورها الأساسي في حماية الأصول الوطنية، وتجعل من الدولة مجرد كيان يسعى إلى تغطية نفقاته المالية دون النظر إلى العواقب الاقتصادية والاجتماعية. التحلل من الدور التنموي للدولة إن التركيز على الحلول المالية السطحية يعكس تحللاً من الدور التنموي للدولة، مما يعزز ضعف الدولة أمام الأزمات الاقتصادية. هذا التحلل يؤدي إلى إعادة توزيع الموارد بطريقة غير عادلة، حيث تتحمل الفئات الأكثر ضعفًا العبء الأكبر من الأزمة، بينما تستمر الفئات القوية في جني الفوائد. بدلاً من تحسين الوضع المالي للدولة بشكل شامل ومستدام، تقوم الحكومة بزيادة أعباء الفئات الأضعف من المجتمع. هذا يضعف من قدرة الدولة على توفير الخدمات الأساسية ويزيد من التفاوت الاجتماعي. السوقنة والتحكم الخارجي في ظل هذه الظروف، تُترَك السلع العامة للسوق الحرة، مما يؤدي إلى تفاقم عدم العدالة الاقتصادية والاجتماعية. هذا التوجه يكرس تبعية الاقتصاد المصري لرأس المال الدولي وصندوق النقد الدولي، مما يعزز من التبعية الاقتصادية والسياسية لمصر، ويحد من قدرة الدولة على اتخاذ قرارات سيادية تحقق مصالح الشعب. ختاما ؛ تحتاج مصر إلى سياسات اقتصادية تأخذ في الاعتبار الأبعاد الاجتماعية والاقتصادية الأوسع، وليس مجرد الأرقام المالية الضيقة. الدولة ليست شركة، والمواطنون ليسوا مجرد عملاء. ما تحتاجه البلاد هو إعادة التفكير في دور الدولة والعودة إلى سياسات تركز على تحقيق التنمية الشاملة والمستدامة، بعيدًا عن الحلول القصيرة الأجل والقرارات المالية السطحية.

