قبل 11 عامًا يوم 14 أغسطس/ آب، أمر الجنرال عبد الفتاح السيسي قوات الشرطة والجيش بتنفيذ أكبر مذبحة للمدنيين في تاريخ مصر الحديث. وفي غضون ساعات، اجتاحت ناقلات جند مدرّعة وجرّافات وقوات برية وقناصة ميدان رابعة العدوية وسط القاهرة، وفتحوا النار على المتظاهرين وفضّوا الاعتصام بالقوة، ثم بنهاية غروب شمس ذلك اليوم قُتل المئات واُعتقل الآلاف.
مع ذلك، ندوب ذلك اليوم الأكثر قتامة في تاريخ مصر أعمق بكثير من الموت والجروح الجسدية، فلم تكن رابعة مجرد مذبحة لجماعة معيّنة، أو نهاية الصرخة الأخيرة لثورة يناير 2011، بل كانت بمثابة بداية انحدار مصر نحو طريق الهلاك، كما كانت بمثابة الإعلان الرسمي عن بداية عهد جديد ورسالة واضحة لكل المصريين لما هو آتٍ.
عواقب مذبحة رابعة كثيرة، وأهمها أنها تمثل رمزًا للظلم اليومي الذي يواجهه المصريون، ورمزًا لازدراء السياسة والحقوق المدنية. لقد خلقت المذبحة حقبة جديدة، فقد أنهى الجيش بقيادة السيسي أحلام الشعب في الحرية والكرامة والعدالة، وأعاده إلى العبودية والقمع والإذلال والفقر، كما عززت المذبحة قبضة نظام الحكم القائم الآن.
إن مذبحة رابعة كانت ولا تزال أساس نظام السيسي، واليوم لا ينشغل المجتمع المصري بالسؤال عمّا حدث، لأن هذه المجزرة موثقة بالفعل، وكل بيت مصري يعرف بالضبط ما جرى، ولكن يدور السؤال عن الذي جنته مصر بعد مرور 11 عامًا على هذه المأساة.
شبح المذبحة بعد 11 عامًا
منذ مذبحة رابعة، شهدت مصر 11 عامًا من القتل والاعتقالات وانخفاض التعليم ومستوى المعيشة، وتهجير المواطنين من بيوتهم، وحظر وسائل الإعلام المستقلة، وإغلاق مؤسسات المجتمع المدني، واختطاف المعارضين واستهداف الصحفيين والمثقفين والأكاديميين، إنها أسوأ 11 عامًا في تاريخ مصر الحديث.
اعتقد كثيرون أن مذبحة رابعة ستمثل نهاية الاضطرابات في مصر، ودعمَ العديد من المصريين السيسي كمنقذ للأمة وحصنًا للاستقرار، لكن المذبحة كانت بمثابة البداية وليس النهاية، مهّدت الطريق لفترة طويلة من القمع، وأعادت تشكيل مسار مصر على مدى الـ 11 عامًا التي تلت المذبحة.
وفي حين أن السيسي بعد الأسابيع التي أعقبت المذبحة قد بنى شرعيته على وعود استعادة الأمن وتحقيق الاستقرار والازدهار الاقتصادي، لم يتمكن من تحقيق أي منهما، فاليوم لا استقرار سياسي ولا سلام اجتماعي في مصر، ولا يمكن تحقيق الاستقرار في البلد إلا بقبضة الأمن.
استقطاب المجتمع المصري
خلفت مذبحة رابعة عواقب وخيمة على تركيبة المجتمع المصري، إذ رسّخ السيسي الاستقطاب والفرقة بين الناس، وانهار جوهر الوحدة الذي كان ذات يوم حجر الزاوية في المجتمع المصري، وتحول المصريون ضد بعضهم.
من المهم ملاحظة أن نظام السيسي منذ البداية سعى إلى خلق الدعم الشعبي لإجراءاته القمعية، وحثّ شريحة من المصريين على المشاركة النشطة في القتل الجماعي للمعارضين، كما نفخ الإعلام في هذا الاستقطاب.
تجلى ذلك بوضوح عندما زغردت شريحة من المجتمع للقاتل، وكانت راضية عن مذبحة رابعة، لدرجة أن مجموعات من المصريين شاركوا في القبض على المتظاهرين الذين حاولوا الفرار من مذبحة رابعة.
ومن خلال بناء السيسي لعقلية الصديق والعدو ومفهوم الوطنية الذي يؤدي إلى الظلم، تمّ تصنيف المعارضين كأعداء للوطن، وحتى اليوم ما زلت مذبحة رابعة تعزز من الاستقطاب بين المجتمع، ولا يزال قطاع من المجتمع يمدحون ما قام به الجيش والشرطة.
وبالتالي عمّقت مذبحة رابعة من حدّة الانقسام بين طبقات المجتمع، وبسبب قبول شريحة من المصريين للقتل الجماعي أو التغاضي عن المذبحة، برر النظام قمعه، وشعر رجال الأمن بالحماية الكاملة لارتكاب الانتهاكات والعنف والقتل.
اختفاء المجال العام
نجح نظام السيسي منذ مذبحة رابعة في خنق المشهد السياسي والاقتصادي والاجتماعي في البلاد، واستهدف العديد من قطاعات المجتمع، وألغى أي مساحة متبقية للتنظيم في الشوارع. فخلال الأشهر التي أعقبت مذبحة رابعة، سنَّ النظام ترسانة من القوانين القمعية التي تجرّم الحق في التجمع السلمي، ولا تسمح للمجتمع المدني بأي مساحة خارج عباءة النظام.
لقد شهدت مصر تقلُّصًا في المساحات المتاحة للمجتمع المدني، وتمّت مداهمة ومصادرة الجمعيات الخيرية الإسلامية والجمعيات المدنية، واختفت الحركات الاجتماعية، وفُكّكت أحزاب المعارضة، وسُحقت النقابات العمالية المستقلة، مع غياب محاكم مستقلة أو إشراف برلماني حقيقي، ما أدّى إلى هدم كامل للمجتمع المدني.
كذلك خضعت وسائل الإعلام الخاصة في مصر للسيطرة المباشرة لجهاز المخابرات العامة، وأدى تركيز النظام الشديد على الدعاية إلى دفع المخابرات لإنشاء وإدارة مجموعة يونايتد، وتمتلك هذه الشركة ما لا يقل عن 14 استديو، وهو ما يعني أن المخابرات تستطيع إنتاج أفلام ومسلسلات درامية أكثر من أي شركة إنتاج تعمل حاليًا في مصر.
حتى قطاع التخطيط الحضري في البلاد مدفوع بأهداف أمنية، إضافة إلى أن مشروع السيسي المفضل، العاصمة الإدارية الجديدة، مصمَّم لعزل النظام عن الاضطرابات المدنية المستقبلية، واليوم يحكم السيسي مجتمعًا نجح في إنهاكه، وتدمّر الأجهزة القمعية المجتمع بشكل يومي.
ثلاثية السجن والاختفاء القسري والإعدام
في ختام فضّ اعتصام رابعة، احتجزت قوات الشرطة والجيش عددًا كبيرًا من الأشخاص في محيط ميدان رابعة، لدرجة أنه تمّ تجميع هؤلاء الناس مؤقتًا في استاد القاهرة الدولي، حتى تتوفر مساحة في أقسام الشرطة المحيطة.
وفي حين استهدف الاعتقال في البداية الإخوان ومؤيديهم، سرعان ما امتد إلى مختلف الأطياف السياسية والدينية والاجتماعية. على مدى السنوات الماضية، أُجبر الآلاف على الهجرة واللجوء والمنفى، وامتلأت الزنازين بعشرات الآلاف من الشباب دون محاكمة، وازداد التوسع في بناء السجون بشكل لم يُعرف مثله من قبل، فقد صدرت خلال فترة 2013-2023 قرارات بإنشاء 48 سجنًا جديدًا، ليصل عدد السجون في مصر حاليًا إلى 91 سجنًا.
وقد توفي المئات في السجون بسبب ظروف الاعتقال القاسية والحرمان المتعمّد من الرعاية الصحية. ويتعمّد النظام حبس الآلاف احتياطيًا لفترات طويلة دون تهمة أو محاكمة، ولا يزال آلاف المعتقلين في الحبس الاحتياطي متجاوزين الحدّ الأقصى القانوني المحدد بعامَين، وكثير منهم أُعيد تدويرهم في قضايا جديدة بالاتهامات نفسها لمواصلة احتجازهم.
أما عمليات الإعدام فقد سجّلت رقمًا قياسيا، أصدرت المحاكم آلاف الأحكام بالإعدام في محاكمات غير عادلة، وعلى مدى السنوات الـ 11 الماضية سجّلت منظمات حقوق الإنسان المصرية اختفاء ما لا يقلّ عن 3 آلاف مواطن قسريًا، ووفاة ما لا يقل عن 1200 شخص في السجون بسبب الإهمال الطبي المتعمد.
كما وثّق مركز القاهرة لحقوق الإنسان 4 آلاف و202 حكمًا بالإعدام أصدرته المحاكم المصرية، تم تنفيذ 448 منها، وهي محاكمات اعتمدت إلى حدّ كبير على اعترافات تحت التعذيب.
وحتى يومنا هذا، لا يزال الكثيرون ينتظرون تنفيذ حكم الإعدام، ويعيش جيل من الشباب في السجون منذ مذبحة رابعة، بينما هناك آخرون حُكم عليهم غيابيًا في المنفى وغير قادرين على العودة إلى ديارهم. وحتى أولئك الذين أُطلق سراحهم فيما بعد، ما زالوا يواجهون مراقبة صارمة تنتهك حياتهم اليومية.
إن الاعتماد المستمر على سجن المعارضين يشير إلى الضعف والخوف من المجتمع وليس القوة، وكما لاحظ معظم المراقبين، فإن ما يسمّى بالحوار الوطني الذي أعلن عنه السيسي في وقت سابق، لا يمثل أكثر من خدعة يائسة للتغطية على إخفاقات النظام ودعم المزيد من المقرضين الأجانب.
الانهيار وإفلاس البلاد
في حين أمّن السيسي بقاءه من خلال إرضاء المؤسسة العسكرية، وسمح بانخراطها الهائل في الاقتصاد، كما أهدر عشرات المليارات على العاصمة الإدارية الجديدة، أصبحت مصر معرّضة بشكل متزايد للانهيار على كافة الأصعدة، وتدهورت ظروف المجتمع الاجتماعية والاقتصادية أكثر من أي وقت مضى.
كما تراكمت مستويات كبيرة من الديون، ليس هناك فقط ارتفاع في التضخم، بل إن الجنيه المصري لا يساوي شيئًا، والغالبية العظمى من المصريين يعيشون على خط الفقر أو تحته. واليوم يتم تخصيص جزء أقل بكثير من دخل المصريين لتوفير الخدمات الأساسية، على سبيل المثال يتم إنفاق أقل من 1.6% من الناتج المحلي الإجمالي لمصر على التعليم، رغم أن دستور السيسي نفسه تعهّد بتخصيص 4% للتعليم.