تتذكر "فرح" رحلة مؤلمة من الشمال إلى الجنوب، حيث بحثت عائلتها يائسة عن ملجأ من الهجمات الإسرائيلية؛ فمنذ اللحظة الأولى التي فتحت فيها "فرح" عينيها، كانت تعيش في أكبر سجن مفتوح في العالم.

وذكرت "ميدل إيست آي" أنه بعد أن عاشت ثلاث هجمات إسرائيلية سابقة على غزة، أصبحت تعرف عن الحرب أكثر من السلام.

وتابعت في تقرير كتبته "هالة الصفدي": "تتابع "فرح" الأخبار، وتعرف أسماء السياسيين الفلسطينيين والإسرائيليين، وقد درست اتفاقية جنيف الرابعة وقوانين الحرب. المشاهد التي تصفها يجب أن تملأ أي طفل بالخوف والحزن، لكن ليس "فرح".

واليوم، تبدو غير مبالية بالأهوال المستمرة. بالنسبة للعديد من الأطفال في غزة، أصبحت هذه المشاهد طبيعية بشكل مخيف.

 وفيما يلي، نقل المقال رواية "فرح" للحرب الحالية، من قصف منزلها إلى قرار عائلتها بالهجرة إلى جنوب غزة.

"قُصف منزلنا. لا أتذكر التاريخ المحدد. لم أعد أعرف ما هو اليوم. كل ما أعرفه هو أننا في حرب منذ حوالي شهرين. كنا نسكن بالقرب من مستشفى القدس في منطقة تل الهوى بغزة. قرر والدي أن نذهب جميعًا إلى المستشفى، معتقدًا أنه سيكون آمنًا. لم نتمكن في البداية من الذهاب إلى الجنوب، لأن والدي لم يتمكن من العثور على مكان نقيم فيه - ولكن بصراحة، كنا خائفين للغاية على أي حال بعد رؤية مقاطع فيديو لأشخاص قتلتهم إسرائيل أثناء فرارهم. بعض الأشخاص الذين نعرفهم من الشمال ماتوا في الجنوب".

"كان العيش في المستشفى أثناء الحرب تجربة مروعة. شعرت كما لو كنت أنتظر الموت. كان الجميع في المستشفى خائفين. كنت أنام مع أختي الكبرى، البالغة من العمر 16 عامًا، في ممرات الطابق العلوي مع النساء الأخريات، بينما بقي والدي وأخي في الطابق الأرضي مع الرجال. كان الليل هو الأكثر رعبًا: تقصف إسرائيل كثيرًا في الليل، ولأنه هادئ جدًا، تبدو القنابل عالية جدًا وقريبة جدًا".

 

 مشاهدة شخص يموت

 "والدي مطلقان. كنت مع والدي عندما بدأت الحرب. تم قصف منزل أمي أيضًا، لكنها اضطرت إلى الفرار إلى منزل أحد الأصدقاء في منطقة مختلفة. كنت أتمنى كل ليلة أن أكون مع والدي وأخي، لكننا لم نتمكن من الاستمرار بين طوابق المستشفى. لم أكن أعرف ما إذا كنت سأرى أمي مرة أخرى. آخر مرة رأيتها، لم أقل لها وداعًا مناسبًا. كنت لا أزال أرغب في احتضان أمي، لكنني كنت قلقة عليها أيضًا. وماذا لو ماتت قبلي؟ نحن لا نعرف من هو أكثر أمانًا. لقد فقدت الاتصال بأمي مرة واحدة لمدة ثلاثة أيام، لأن إشارة الهاتف في المستشفى كانت ضعيفة".

"كانت تل الهوى تتعرض لقصف عنيف ومستمر. لم أكن أعرف المباني التي ضربوها، لكني سمعت كل شيء. لم أكن أتخيل أن هناك أي شيء قد بقي لقصفه، لكن القنابل سقطت رغم ذلك. وفي إحدى الليالي، بدأت الدبابات الإسرائيلية بمحاصرة المستشفى، ولم نتمكن من النوم - ولا حتى لثانية واحدة. كنا نسمع الدبابات تتحرك. نظرت فتاة صغيرة من النافذة وسرعان ما اقتنصها الاحتلال. ماتت أمامنا".

"كانت هذه هي المرة الأولى التي أرى فيها شخصًا يموت أمامي. بكت والدتها طوال الليل. ولم يجرؤ أحد على الاقتراب من النوافذ بعد ذلك. بكيت في تلك الليلة أكثر مما بكيت في أي وقت مضى. وكانت إسرائيل تريد منا إخلاء المستشفى، لكنها لم تقدم تفاصيل. لم نكن نعرف كيفية الخروج. كان الجنود يطلقون النار على أي شيء يتحرك. أخبرنا الأطباء أن الصليب الأحمر ينسق مع إسرائيل، وأنهم ينتظرون "إشارة" من إسرائيل بأننا نستطيع المغادرة بأمان".

"كان انتظار تلك الإشارة أمرًا مؤلمًا، لكنه أعطاني الأمل. مرت الساعات؛ ومع شروق الشمس، كنا لا نزال في ممرات المستشفى المظلمة والضيقة. ثم، قبل الساعة التاسعة صباحًا، حصلنا على الإشارة".

 

 نكبة أخرى

"في المدرسة، درسنا كل شيء عن النكبة الفلسطينية عام 1948. وشاهدنا أفلامًا عن كيفية طرد الفلسطينيين وقتلهم. وعلمنا بالمجازر التي حدثت في القرى. شعرت أنني كنت الآن في نفس هذه الأفلام.إنه لأمر محزن للغاية أنه في يوم من الأيام، سيتم تدريس قصتنا في دروس التاريخ. هل سأكون مثل هؤلاء الجدات، أخبر أحفادي كيف اضطررنا للفرار من مدننا لأنهم كانوا يقتلوننا؟"

"سُمح لنا في النهاية بالخروج من المستشفى. اتصلت بأمي لأخبرها أننا في طريقنا إلى الجنوب، على أمل أن أراها هناك. أخبرتها أن هناك جثة أمامي على درج المستشفى. طلبت مني وهي تبكي ألا أنظر. لكنني ظللت أبحث طوال الوقت وأنا أبتعد. ومع مئات الأشخاص الآخرين الذين فروا ذلك الصباح، سلكنا طريق صلاح الدين، بناءً على أوامر القوات الإسرائيلية".

"مشينا لفترة طويلة، من حوالي الساعة 9 صباحًا حتى 2 ظهرًا. شعرت أن قلبي سيتوقف في أي لحظة. في بعض الأحيان كنت أغمض عيني وأنا أسير؛ لم أكن أريد أن يكون هذا حقيقيًا. لكنني أردت أيضًا أن أبقي عيني مفتوحتين. ماذا لو أطلق الجنود الإسرائيليون النار على والدي أو إخوتي؟ وفي مناطق معينة، حيث يتجمع الجنود أو الدبابات الإسرائيلية، لم يُسمح لنا بالنظر حولنا. كان علينا أن نسير وأيدينا مرفوعة، وكان الكبار يحملون هوياتهم في يد واحدة. ولم يُسمح لنا بإخراج زجاجة ماء من حقيبتنا، ولا بشرب رشفة من الماء. إن تحريك أيدينا أو الإمساك بأي شيء يعني أننا نخاطر بإطلاق النار علينا. لم أشعر بالجوع على الإطلاق، بل كنت ظمآنة جدًا".

 

 نقاط التفتيش والجثث

 "في إحدى مراحل رحلتنا، اعتقل الجنود الإسرائيليون شابين. وظهر أنهم اختاروهم بشكل عشوائي، وطلبوا منهم تحت تهديد السلاح خلع جميع ملابسهم، باستثناء الملابس الداخلية. سمحوا لأحد الرجال بالعودة إلينا واعتقلوا الآخر. ولا نعرف ماذا حدث له. بكت عائلته بقية الطريق. كنت أخشى أن يعتقل الجنود الإسرائيليون والدي أو أخي".

"كما أقامت إسرائيل نقاط تفتيش أمنية، وأمرتنا بالمرور عبر جهاز كشف يستخدم تقنية مسح الوجه. خشيت أن يُطلق النار على أحدنا، إذ حاول جنديان إسرائيليان استفزازنا بأن يصرخ قائلًل: "شكرًا لنا وشكرًا لحماس على هذا". لكن الناس ظلوا يطلبون من بعضهم البعض أن يتجاهلوا ما يقولونه من أجل الوصول إلى بر الأمان".

"كلما مشينا أكثر، كلما رأينا المزيد من الجثث على الأرض. رأيت امرأة مستلقية بجانب طفل صغير. وكانت بعض الجثث مغطاة بالبطانيات. وكانت هناك أيضًا سيارات محترقة وبداخلها جثث محترقة".

"عندما وطئنا جنوب وادي غزة، كان العشرات من الفلسطينيين ينتظروننا، وأخبرونا أننا أصبحنا آمنين الآن. أعطوني عصير فراولة صغيرًا وكعكة شوكولاتة. جلست على الأرض ولم أتمكن من التحرك لفترة. أعطيت والدي عناقًا كبيرًا وبدأت في البكاء. أخبرني والدي أنني يجب أن أكون قوية. ثم نهضت ووصلت إلى مدرسة تابعة للأمم المتحدة".

https://www.middleeasteye.net/opinion/israel-palestine-war-gaza-child-account-fleeing-bombs