أكدت مديرة مكتب واشنطن بوست في القاهرة، كلير باركر، أن أحلام مصر بإنتاج وتصدير الغاز الطبيعي، اصطدمت بسوء التخطيط، وضعف الإمكانات، وزيادة الاستهلاك، وتراجع إنتاج الحقول التي تزود شبكتها بالطاقة، فباءت كل طموحاتها بالفشل.

وقالت باركر في تقرير صحافي، عندما غزت روسيا أوكرانيا العام الماضي، وارتفع الطلب الأوروبي على الغاز الطبيعي إلى عنان السماء، رأت مصر فرصة سانحة لتصدير الغاز، وبفضل اكتشاف حقل بحري ضخم في عام 2015، وفي ظل حاجتها الماسة إلى النقد الأجنبي، كثفت الحكومة شحنات الغاز عبر البحر الأبيض المتوسط.

 

انقطاعات متكررة للتيار الكهربائي

وبعد مرور عام، خلال فصل الصيف الحار، ترك نقص الغاز مصر تكافح من أجل الحفاظ على الأضواء. وتوقفت الصادرات. وللمرة الأولى منذ ما يقرب من عقد من الزمن، تشهد القاهرة انقطاعات متكررة للتيار الكهربائي، مما أثار الاستياء العام في الوقت الذي يستعد فيه عبد الفتاح السيسي للترشح لولاية ثالثة.

لمدة ساعة كل يوم، تتوقف مكيفات الهواء والمراوح عن العمل. المصاعد تتوقف عن العمل. الإنترنت ينقطع. الأحياء التي تنقطع عنها الكهرباء ليلًا لا تضاء إلا بالمصابيح الأمامية للسيارات المارة. وفي المناطق الريفية خارج العاصمة، تكون انقطاعات التيار أكثر تكرارًا وتستمر لفترة أطول.

وأدى تضخم عدد السكان والصيف الأكثر حرارة إلى زيادة الطلب المحلي على الكهرباء في أكبر دولة في العالم العربي من حيث عدد السكان، مما يجهد الشبكة التي تعتمد بشكل كبير على الغاز الطبيعي.

ويقول محللون إن مصر كانت متحمسة بشكل مفرط في سعيها لإنتاج وتصدير الغاز الطبيعي، وفشلت في التخطيط لتراجع الحقول وتنويع مصادر الطاقة التي تزود شبكتها بالطاقة.

في أوائل الصيف، بدأت الكهرباء تنقطع بشكل عشوائي على ما يبدو، كما روى المصريون – أحيانًا عدة مرات في اليوم، وأحيانًا لساعات.

حسين أنور، 22 عامًا، يعمل في صيدلية بالجيزة، على الطرف الغربي للقاهرة. عندما انقطعت الكهرباء لمدة ثلاث إلى أربع ساعات في شهر يوليو، كان على أنور جمع كل الأدوية المبردة - الهرمونات والأنسولين واللقاحات - ونقلها عبر الحي إلى مبنى مزود بالكهرباء.

وفي مدينة المحلة، لا يزال انقطاع التيار الكهربائي "عشوائيًا للغاية"، حيث يتراوح من خمس دقائق إلى ثلاث ساعات يوميًا، وفقًا لخالد، الرئيس التنفيذي لشركة متوسطة الحجم هناك.

واضطرت الشركة، التي تجري المعاملات الدولية بانتظام، إلى شراء مولد جديد مؤخرًا بتكلفة تزيد عن 100 ألف جنيه (حوالي 3200 دولار). وقال خالد إن القانون المصري يحظر نقل الوقود في صفائح، لذلك "كل يومين، يجب أن أستأجر شاحنة لنقل المولد إلى محطة الوقود لتزويده بالوقود".

مثل الآخرين في هذه المقالة، شارك قصته مع صحيفة واشنطن بوست بشرط أن يتم تعريفه باسمه الأول حتى يتمكن من التحدث بحرية عن قضية حساسة.

وقال خالد إن الحكومة “تفشل بشكل كبير”. "لدينا كارثة، والكارثة ليست موزعة بالتساوي".

لن تستمر طوال الصيف.. تعرف على موعد انتهاء انقطاع الكهرباء

ارتفاع الطلب

وفي يونيو، أدركت الحكومة أن شبكة الكهرباء كانت تحت الضغط، فأوقفت صادرات الغاز. لكن موجة الحر القاسية أعقبت ذلك في يوليو.

أعلنت الحكومة في ذلك الشهر عن إجراءات للحفاظ على الطاقة، بما في ذلك جدول زمني لانقطاع التيار الكهربائي يوميًا في جميع أنحاء البلاد. وأعلن رئيس الوزراء مصطفى مدبولي، أن مصر ستستورد المزيد من وقود الديزل لتشغيل محطات توليد الكهرباء.

أعفِيت المناطق الساحلية في مصر، التي تجتذب السياح الأجانب ونخبة القاهرة خلال أشهر الصيف، من انقطاع التيار الكهربائي المخطط له. وقال مدبولي إن “السياح الأجانب يأتون ويدفعون بالعملة الصعبة، وهو ما يشكل مصدر الدخل الرئيس للحكومة. وإذا قطعنا الكهرباء عن المناطق الساحلية، فلن يأتي السياح”.

أعفِيت أيضًا بعض الضواحي الراقية المبنية حديثًا في العاصمة. ولكن انقطاعات التيار الكهربائي هذه السنة ملحوظة حيث وصلت إلى بعض الأحياء الأكثر تميزًا في القاهرة. في متجر للتوابل بالهرم، وهو حي للطبقة المتوسطة بجوار أهرامات الجيزة، انبعثت تلاوة قرآنية من شاشة تلفزيون سوداء – تضررت بسبب انقطاع التيار الكهربائي، وذلك وفقًا لمحمود، الذي يعمل هناك مع عمه. ويعتمد الاثنان على أجهزة القياس الرقمية لوزن الكمون والكركم والفاصوليا المجففة. وقال محمود “إننا نكافح حقًا. إذا انقطعت الكهرباء، لا يمكننا وزن أي شيء”.

أورد تيموثي كالداس، نائب مدير معهد التحرير لسياسة الشرق الأوسط، إنه بالنسبة للحكومة، فإن أزمة الطاقة “لا يمكن أن تأتي في وقت أسوأ”. وأضاف كالداس أن “البلاد تعاني من نقص هائل في العملة الصعبة، ولديها التزامات خارجية ضخمة بسبب خدمة ديونها، كما أن قدرتها على الوصول إلى التمويل الخارجي محدودة للغاية. لذلك فإن شراء الطاقة، بالإضافة إلى ارتفاع أسعار المواد الغذائية العالمية وكل ما تبقى من ذلك، يضع أعباءً إضافية على الدولة”.

بالأرقام.. ننشر مواعيد قطع الكهرباء في مصر على مدار اليوم - بيان

الاعتماد على الغاز الطبيعي

كانت المرة الأخيرة التي شهد فيها سكان القاهرة انقطاعًا واسع النطاق للتيار الكهربائي لمدة أشهر بين 2012 و2014 في أعقاب ثورة 2011 التي أطاحت بالديكتاتور حسني مبارك. قال محللون إن البنية التحتية المتداعية للطاقة منذ سنوات حكم مبارك، إلى جانب الاضطرابات السياسية والمالية، أسهمت في انقطاع التيار الكهربائي المتكرر لساعات طويلة في جميع أنحاء البلاد.

وبعد أن أصبح السيسي رئيسًا في سنة 2014 (بعد انقلابه على الرئيس المدني المنتخب محمد مرسي رحمه الله) استثمر بكثافة في زيادة الطاقة الإنتاجية، حيث منح شركة “سيمنز” الألمانية أكبر عقد على الإطلاق لبناء محطات ضخمة جديدة تعمل بالغاز في مصر.

تم اكتشاف الغاز الطبيعي لأول مرة في مصر في الستينيات. لكن الصناعة انطلقت في العقد الماضي مع اكتشاف حقل ظهر سنة 2015، وهو أكبر اكتشاف للغاز في البحر الأبيض المتوسط.

عندما غزت روسيا أوكرانيا في فبراير 2022، واضطرت الدول الأوروبية التي تعتمد على الغاز الروسي إلى البحث عن أماكن أخرى، برزت مصر. وبحلول نهاية إبريل من تلك السنة، كانت مصر قد كسبت من صادرات الغاز القدر نفسه الذي حققته في سنة 2021 بأكمله، أي 3.9 مليار دولار، وذلك حسب ما ذكره موقع “كوارتز”. وبموجب اتفاق تم توقيعه في يونيو 2022 مع “الكيان الصهيوني” والاتحاد الأوروبي، تم أيضًا توريد الغاز الصهيوني إلى المصانع المصرية لتسييله وإرساله إلى أوروبا.

صدّرت مصر 8.5 مليون طن من الغاز الطبيعي المسال في سنة 2022، مما يجعلها في المركز الثاني عشر بين أكبر المصدرين في العالم، وذلك وفقًا لمؤسسة “ريستاد إنرجي”. وأعلنت السلطات أنه للمرة الأولى، تم تصدير 60 بالمئة من إنتاجها من الغاز الطبيعي إلى أوروبا.

بدأ محللو السوق دق ناقوس الخطر بشأن تراجع الإنتاج في ربيع السنة الجارية بورود تقارير عن مشاكل في تنقية المياه بحقل غاز ظهر. لكن مصر واصلت تصدير الغاز الطبيعي المسال بنفس المعدل. واعترف المسؤولون المصريون بأن نقص الغاز أدى إلى انقطاع التيار الكهربائي هذا الصيف، لكنهم قللوا من أهمية المشاكل في حقل غاز ظهر. وألقى السيسي باللوم على ارتفاع درجات الحرارة وقال إن نقص الكهرباء كان يمكن أن يكون أسوأ لولا طفرة الغاز في مصر. وقال في أغسطس إنه “عندما يكون هناك عبء، علينا جميعا أن نساعد بعضنا البعض”.

مواعيد قطع الكهرباء في مصر.. الحكومة تعد بانتهاء الأزمة خلال أيام | اخبار |  المواطن المصري

انقطاع الكهرباء وضع السيسي في ورطة

يقول بعض المحللين إن مصر بذلت جهدًا كبيرًا وبسرعة فيما يتعلق بالغاز الطبيعي. وقال سياماك أديبي، من شركة “إف جي إي” العالمية الاستشارية الطاقية، إنه “حتى لو كان لديك حقل كبير، إذا قررت إنتاج كمية كبيرة للغاية من الغاز في فترة زمنية قصيرة، فإنك ستواجه بعض الصعوبات”. وأورد كالداس أنه كان ينبغي للحكومة أن تأخذ بعين الاعتبار تراجع حقول الغاز واحتياجات السكان المتزايدة وأنه “كان مفهومًا أن تصدير مصر للغاز سيكون مؤقتًا ما لم تكن هناك بعض الاكتشافات الضخمة الإضافية. فلماذا فشلت الدولة في التخطيط لذلك؟”.

ذكرت بسمة المومني، أستاذة العلوم السياسية بجامعة “واترلو” في كندا، أن انقطاع التيار الكهربائي محرج بشكل خاص للسيسي لأنه راهن بإرثه على تحسين البنية التحتية. وهي تعتقد أن “أزمة الكهرباء تنال من الناس، لأنها تتناقض بشكل صارخ مع ما يدافع عنه السيسي”.

يوم الثلاثاء، أعلنت الحكومة عن خطط لحفر 35 بئرًا استكشافية وزيادة الطاقة الإنتاجية في حقل ظهر. ومن شأن قرار “الكيان الصهيوني” الأسبوع الماضي بتوسيع صادرات الغاز الطبيعي إلى مصر تعزيز هذه الطموحات أيضًا في المستقبل. وفي الوقت الحالي، تعتمد مصر على انخفاض درجات الحرارة في الخريف. وقد ذكرت وسائل الإعلام المحلية هذا الأسبوع أنه من المتوقع أن ينتهي انقطاع التيار الكهربائي في سبتمبر. وبالنسبة لمحمود وعمه في محل التوابل بالهرم، لا يمكن أن يتحقق ذلك قريبًا إذ صرّح عمه قائلًا “نأمل وندعو الله أن تتغير الأمور إلى الأفضل”.

لمطالعة التقرير من مصدره الأصلي ( اضغط هنا ).